قصص صحفية

صاحب الكشك “موفق اي شالله”

صلاح رفو 

. لا أعرف إن كانت العبارة بلفظها الفارسي صحيحة، أم أن الرجل العجوز يحاول أن يظُهر ودّه لي نهاية كل أسبوع حين أذهب لكشكه لدقائق وأغادر. بدأت الحكاية عندما كاد سائق العربة الشوكية المتهور أن يكسر رجلي في حركة غبية منه وهو يقوم بحمل بعض الصناديق المعدنية على وجه السرعة، فحصر رجلي بين أحد تلك الصناديق الملاصقة بعضها ببعض وبين الحائط رغم بعد المسافة بيني وبين خطوط عمله، على أية حال كانت ردة فعلي سريعة للغاية، إلا أن هذا لم يمنع بإصابة كاحلي الأيمن مما أدى لاستدعاء سيارة الإسعاف بعد الحادثة بوقتٍ وجيز، نصحني المسعفون بالذهاب معهم من أجل إجراء فحوصات الأشعة والتي أظهرت وجود فطر بسيط في رجلي، الأمر الذي جعلني أمكث في البيت لستة أسابيع متواصلة.
بعد الأسبوع الأول طُلب مني مراجعة مستشفى (اوكستا) و هي الأقرب لمنزلي من أجل البدء بالتمارين الرياضية لاستعادة نشاط رجلي المصابة وكمعظم المستشفيات الكبيرة أعطتني موظفة الاستعلامات خريطة تعريفية لأقسام المستشفى، واشارت بالقلم على نقطة معينة حيث وجهتي، الطابق السفلي تحت الأرض مخصصٌ بالكامل لمطبخ المستشفى والذي يجهز الأكل فيه لجيشٍ من المرضى والموظفين، أما الطابق الأرضي فهو مهيأ للألعاب الرياضية المتنوعة مع مسبحٍ كبير وغرف مساجٍ مطلة على الشارع العام مظللةٌ بزجاجٍ عازل للصوت والرؤية من الخارج، وعلى العكس يتيح للمريض رؤية حركة الناس والسيارات و مناظر حديقة المدينة الكبيرة.
بعد التمرين لمدة ساعتين حسب الجدول الذي أعده لي شابٌ مفتول العضلات أرشدني بلطف_ بعد أخذي لحمام ماءٍ سريع_ بالتوجه إلى غرفة المساج الثامنة لحين مجيء من هو مختص بتدليك رجلي ومعرفة الألم الموجود أو المتبقي في كاحلي. لم تمضِ سوى دقائق قصيرة فإذا بفتاة سمراء سريعة الكلام والحركة طلبت مني أن أتمدد على البطن بعدما عرفتي بلقبها المدون على باجٍ صغير معلق على صدريتها الرياضية.
وضعت عجينة حارة وغطت معظم أجزاء قدمي الأيمن، هو المٌ ممتع لاسيما بعد تعود الجلد على تلك الحرارة، الكلام عن أمور الكسر البسيطة أخذ منحى آخر لم أحبذه، إلى أن توقفت برهة وقالت: أنا أكره أردوغان!.
_ لدي أصدقاء أتراك كثيرون يحبونه، إذ يجدون فيه رمزاً تركياً مهماً.
– أعرف أنك تجاوبني بكثير من السياسة، وهذا لا يثير استغرابي، فأنا أنتمي للديانة العلوية و مولودة هنا، ولكن مازال والداي يرون في نقد أي شيء يخص تركيا خطرا علينا! الأقليات دائماً هكذا، يحيون ويموتون وهم على حافة الخوف، لقبك يوحي ببساطة بأنك كوردي أو علوي أو مسيحي أو أيزيدي..إلخ من المسحوقين من كل الأنظمة ومجتمعاتها التي أصبحت صورة مكبّرة لتلك الأنظمة، لكن رغم ذلك تتحاشى الحديث بالسوء عنهم وكأنه قد بقي شيء لم تخسره!
لا أعرف كيف مرّ ذلك الأسبوع الصعب مع السيدة ايلان التي أعطتني دروساً عن الخوف والجبن والخضوع أكثر من تدليكها لرجلي المتعبة، تنفست الصعداء في الأسبوع الذي يليه بعدما خصصوا لي مدلكا آخر، شابٌ ألماني طويلٌ و مبتسمٌ على الأغلب، وضع العجينة الحارة بمهارة فائقة على رجلي التي باتت تتحسن بشكلٍ تدريجي، بادرتُ في فتح موضوعٍ جانبي حتى لا أدخل في التباسٍ آخر، أخبرته ولعي بالافلام والمسلسلات ومدى متابعتي لأحدث القصص، سبق هذا الحدث التكلم عن الدوري الألماني لكرة القدم، غير أن صاحبنا لم يكن مهتما بكرة القدم عكس أغلب الألمان، لكنه بدء بالحديث عن المسلسل الألماني ” دارك” بعدما أخبرته بانني شاهدتُ جزءه الأول
” الحياة ليست سوى دوامة من الألم
” معظمنا ليس سوى بيادق في رقعة الشطرنج”
” الطيبون يتعرضون للضربة الأقوى”
” نحن نولد، وحياتنا تتسلل منا بعيداً بالفعل”
هذه العبارات والعشراتُ من الاقتباسات المأخوذة من المسلسل قالها السيد هانس لدرجة كاد أن يخبرني بكل تفاصيل المسلسل” المعقد أساسا” في جلسات التدليك تلك، والتي استمرت لأسبوعين لينصحني قبل حصته الأخيرة بمشاهدة الجزء الثاني والثالث للمسلسل، أنقذني الممرض الثالث والأخير في ما تبقى من فترة العلاج، والذي طلب مني أن اناديه باسمه الأول “مارفن” في جلستنا الأولى، كانت عجينته باردة مقارنة بالبقية، كذلك حركة يديه ليست بتلك المهارة التي يستحق عليها المديح، لا أعرف كيف أصف مارفن لكنه باختصار شبيهٌ جدا بـ(ألياس) جارنا الذي لا تعرفونه، يمكن القول أن الياس هو أيقونة أبناء جيله المولودين في ستينيات القرن الماضي، طحن الحرب سنينه وفقد كلّ رفاقه الذين في عمره، لذا تجده يحاول يائسا أن يواكب الجيل الذي يصغره سناً فيفشل، ولا يستسيغه من يكبرونه من جيل الخمسينات، تتعرف على هذه الشخصيات بعيونهم الحائرة التي تراقب فقدان أثمن الأشياء بين يديها دون استطاعتها أن تحرك ساكنا، ورغم فارق الظروف والبيئة أجد الكثير من هذه التفاصيل في مارفن الشغوفٍ بالحديث، وها هو قد بدء بسؤالي: دعني أخمن، سحنتك توحي بأنك قادمٌ من أمريكا الجنوبية…أليس كذلك؟!
_ لا، في الحقيقة أنا لست من هناك لكنني مهتم جداً بالسفر لتلك القارة.
_ حسناً، وهذا ما أردت أن أخبرك به، اختر (تشيلي) دون تردد، ستذهب إلى سانتياغو العاصمة، ستجدها مكتضة بالسياح، مهما كانت لغتك الانكليزية سيئة سيتقبلونك، فهم ودودون جدا، ولا تنسى بأن تشرب كوكتيلاً منعشاً مع سكرٍ محلي معجونٍ بالنعناع ستتشجع مباشراً وتطلق العنان لكل كلمة حفظتها منذ الصغر، وستغني لا محال، فالجميع هناك يغنون ويحبون المغنيين، لكنني أنصحك بأن تضع مشروب الروم بدلا من الفودكا حتى لا تفقد صوابك بسرعة، أما إن كنت تبحث عن مغامرة حقيقية أوصيك بمدينة فالباريسو فهي لا تبعد أكثر من ساعة من العاصمة، ففيها شواطئ لا تنتهي، وستلتقي هناك حتماً بحسناواتٍ ارجنتينيات ذوات جمال خلاب لا يضاهيه في كل تلك القارة، دخن معهم الحشيش، فحديثهم ممتع مع الموسيقى والسيكار، لا تخبرني أنك لا تتدخن فهذه فرصة العمر، اختمها هناك، ولتكن وصيتك بعد الممات ان يضعوا رماد جثتك في جرة جميلة، وارمها في جزيرة الفصح القريبة من المحيط الهادئ، يُقال بأن الأرواح هناك تشعر بالطمأنينة.
_لكنني أبحث عن موتٍ محلي يكون أوضح وأكثر تراجيديا.
_ هل في ذاكرتك نهرٌ أو بحرٌ معين لترمي بذكراك فيه؟!
_ نعم، في مدينتي شطٌ صغير يفيضُ في موسم الربيع اسمه” عين بلبولي” لكن كيف تنصحني بتجربة لم تخضها أنت بعد
_ التجربة مررت بها صديقتي الحالية برفقة زوجها السابق عندما فاز الأخير باللوتو قبل سنوات، فاختارا دولة تشيلي ليحققوا حلم الرجل الذي صرف كل ما ربحه في أقل من شهرين ورجع للبلاد، أو جاء رماده في جرة فخارية صغيرة منقوشة بزخارف غريبة تعود لحضارة الانكو حسب ما اعرف.
_ ومن أين تُسحب ورقة اللوتو؟!
امسك مارفن بيدي ليأخذني إلى ذلك الشباك المظلل زجاجه وأشار بسبابته: أترى ذلك الكشك الصغير؟! ازوره نهاية كل أسبوع إلى أن يبتسم الحظ لي ذات يوم وتتحقق الأمنية
. بعد آخر لقاء مع مارفن، أذهب مساء كل يوم جمعة إلى ذلك العجوز الإيراني في كشكه الصغير قرب المستشفى ليجدد لي بطاقة اللوتو بنفس الارقام التي تبدأ وتنتهي بها خطوط عرض دولة تشيلي، وما أن يسلمني الورقة يقول لي بصوت خافت ومتردد :” موفق أي شاء الله.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى