سرمد سليم
كانت مشكلة نيتشه في كوخه على جل ميرا ليست في البرد، بل في الجثة المزعومة. لقد بدأ يشعر أن رائحة “الإله الميت” لم تكن مجرد استعارة فلسفية، بل كانت رائحة حقيقية جداً تأتي من بقايا المجازر في الأسفل. أو ربما، كما قال له أحد الرعاة الساخرين، “هي فقط رائحة الكاز المغشوش الذي نستخدمه للتدفئة، يا سيد شنب.”
كان نيتشه مرهقاً. لم يأتِ أحد ليتعرف على الجثة. الفلاحون كانوا مشغولين بزراعة العدس العنيد الذي يرفض النمو، والنساء كنَّ منشغلات بـ حياكة الصبر على شكل سجاجيد.
وفي أحد الأيام، دخل نيتشه كوخه فوجد حشرة صغيرة تزحف فوق أوراقه التي كتب عليها نبوءته العظيمة عن الإنسان السوبر. ضربها نيتشه بمطرقته. فكر: “حتى الحشرات، لا تحترم تاريخ الفلسفة!”
في الليل، لم يجد نيتشه شيئاً ليأكله سوى علبة تونة فاسدة اشتراها من كشك في الوادي. فتح العلبة. شم. كانت الرائحة أشد نتانة من أي استعارة عن “موت الإله”.
”يا إلهي،” همس نيتشه. ثم تذكر. “عفواً. يا عدمي!”
بث مباشر لجثة الإله
قرر نيتشه أن المشكلة ليست في الإله، بل في التسويق.
وضع إعلاناً بخط يده على مدخل الكوخ:
دعوة عاجلة لمشاهدة جثة الإله!
الزمان: كل صباح بعد التاسعة (إذا لم يكن هناك ضباب).
المكان: قمة جل ميرا.
ملاحظة هامة: يرجى إحضار شاي الكرك الثقيل للمساعدة على تحمل المشهد.
وفي اليوم التالي، صعد صحفي من وكالة “بي بي سي” (BBC)، مرتدياً سترة واقية من الرصاص وكاميرا ضخمة.
”أنت هو الفيلسوف الذي يدعو الناس للتعرف على الجثة؟” سأل الصحفي بلهجة إنجليزية مصطنعة.
”أنا هو،” قال نيتشه وهو يلعق بقايا التونة من شاربه. “تعال. الجثة تنتظرك.”
أخذه نيتشه إلى حافة القمة وأشار إلى السهل المدمر في الأسفل.
”ها هي الجثة!” صرخ نيتشه. “كل هذا! كل هذا الدمار! كل هذا الصمت بعد صرخات الاغتصاب! هذه هي بقايا الإله الذي تركهم ومضى ليتناول الغداء في مكان هادئ! ألا ترى التعفن؟”
ضحك الصحفي ضحكة مهذبة. “عظيم. ميتة مجازية. لكن أين القصة الحقيقية؟ أين الجثة الجسدية؟ هل يمكن أن ألتقط صورة سيلفي معها؟ هذا ما يريده المشاهد يا سيدي.”
أصيب نيتشه بصدمة عبثية. “صورة سيلفي؟ يا لك من كائن تافه! أنت لا تريد الحقيقة، أنت تريد لايكات!”
”بالضبط!” قال الصحفي بابتهاج. “موت الإله الآن صار ‘تريند’ يا سيد شنب. هل سنحصل على لقطة حصرية؟”
النتيجة النهائية: نيتشه يبيع التونة
في تلك اللحظة، أدرك نيتشه أن محاولته لـ “تجاوز الإنسان” كانت عبثاً مطلقاً. الجثة لم تكن بحاجة لمن يتعرف عليها، بل بحاجة لمن يُعلنها على قناة فضائية ويحولها إلى سلعة استهلاكية.
طرد نيتشه الصحفي بالمطرقة، وعاد إلى كوخه، منهاراً على بطانية الصوف.
”لقد نجحوا في قتلي أنا أيضاً،” همس نيتشه. “لقد حولوا الألم إلى فيلم وثائقي سخيف.”
في اليوم التالي، نشر نيتشه إعلاناً جديداً على الصخرة:
تغير في العمل:
العمل القديم: الدعوة للتعرف على جثة الإله (فشل ذريع).
العمل الجديد: تونا معلبة فاسدة للبيع! الطعم أشد مرارة من كل الفلسفات. سعر زهيد.
لأننا، في النهاية، كلنا نُباع ونُشترى، يا سادة.
أما جثة الإله، فقد ظلت تطفو في سماء شنكال، لا أحد يكترث بها. الكل كان مشغولاً بشراء التونة الرخيصة، أو بأخبار الكاز المغشوش. وهذا، كما أدرك نيتشه أخيراً، هو الانتصار الحقيقي للعبث.