
د.خليل جندي
الحلقة الأولى (1-2)
كل شئ في الدين رمز: رمز إلى معنى كبير..لالش كمركز الدين الايزيدي رمز. الحج إلى لالش رمز..الطواف حول الأضرحة رمز. رقصة (السماع) رمز. إشعال الفتائل رمز. الدعاء رمز. طقوس (القاباغ) وذبح الثور رمز. التعميد في ماء العين البيضاء( كانيا سبى) و (زمزم) رمز. عقد خرق الأقمشة على أغصان بعض الأشجار بلالش وغيرها من الأماكن رمز. صنع (البرات) وتوزيعها رمز. تهيئة أكلة (السماط) رمز. جولات (الطاؤوس) بين القرى والقصبات الايزيدية رمز. تعميد (به رى شباكى=عرش الشيخ آدي) و (الطاؤوس-السنجق) في عين ماء (كلوك) رمز. تعميد الأطفال في ماء (كانيا سبى-العين البيضاء) و (عين زمزم) رمز. الطوق (كريفان=) الذي يلبسه الايزيدي من يوم ميلاده حتى مماته رمز. إحياء وإقامة الطوافات (المهرجانات) الربيعية سنوياً في جميع القرى الايزيدية رمز. وضع خيط ملون (باصمبار) رمز. عدم الزواج وعدم حفر الأرض في شهر نيسان رمز. هناهين وزغاريد النساء رمز(1).. فالخالق موجود في كل مكان وليس في لالش فقط…الدعاء وترتيل (الأقوال) والنصوص الدينية هو إعداد وتجهيز للجسم والنفس أن تكون أكثر صفاءً وأكثر إقتراباً إلى الخالق.. وكل شئ يرمز. وما من دين إلاّ وبه رموز إلى معان أكبر وأبقى. وحتى الذين لا يؤمنون بدين عندهم أيضاً رموز: زعماء وأبطال وتماثيل ومواقع ومعارك وكتب، كما يقول الكاتب أنيس منصور، وكلها رموز صغيرة لمعان أكبر. وهم حريصون على أن تكون أبقى!(2).
أنا، الآن، أمام الكثير من الرموز والألغاز، لكن السؤال، بل المشكلة هي كيف أتمكن من نقل هذا الكثير في هذا القليل من الكلمات ومن الحروف. فهل تستطيع ثمانية عشرة حرفاً من حروف اللغة العربية، أو إثنتان وثلاثون من حروف اللغة الكردية الكرمانجية أن ترسم لنا صورة كلمات لفك معاني تلك الرموز. إنني هنا سوف لم أبحث عن أنسب الكلمات ، لكنني أحاول البحث عن أنسب المعاني التي تحملها تلك الرموز.
الديانة الهندوسية أو الهندوكية هي من أقدم الديانات التي اعتنقها الإنسان بأربعين قرناً قبل ميلاد المسيح، ويدين بها الآن أكثر من 400 مليون هندي. هذه الديانة ليس لها كتاب واحد ولا نبي واحد ولا إله واحد. وأختصرت آلهتهم إلى ثلاثة أو أربعة أو سبعة. ويعتبر كتاب “فيدا” بأجزائه الأربعة عن الطقوس والابتهالات والصلوات من أهم كتب هذه الديانة. وهناك كتاب “التعاليم السرية” الفلسفية اسمه “الأوبانيشاد”.
يقول الكاتب أنيس منصور في كتابه “ديانات أخرى” الذي أشرنا إليه في الهامش رقم (2)، بأن أسهل طريقة لسوء فهم الديانة الهندوسية أن ننظر إلى ما يفعلونه. إنهم يقدسون الأبقار والقردة وبعض الطيور(3) وبعض الحشرات وبعض الأشجار والأنهار، وقليل جداً من يقدس الثور، أو يقدس النمل والنحل…ومن وراء هذا يعتقد البعض أنهم وثنيون، ولكن المعنى وراء تقديس الحياة والأحياء شئ آخر. “إنهم يقدسون كل كائن حي له روح فالروح مقدسة لأن الروح أبدية مثل روح الإله.
وحتى إذا مات الإنسان أو الحيوان فإن هذه الروح تنتقل من جسم إلى جسم، من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر أو حيوان، وفي الجسم الجديد تكفر عن خطاياها القديمة وتظل كذلك إلى الأبد..أي عندما تنعدم الحياة تماماً، وبعد إنعدامها تعود الحياة مرة أخرى”(4). هذا المعتقد الذي يطلق عليه “تناسخ الأرواح” أو “التقمص” أو “كراس كهورين Kiras guhoreen” راسخ في الديانة الايزيدية والكاكائية وعند الكثير من كبار المتصوفين.عتقد الديانة الهندوسية، ومعها الديانة الايزيدية، أن هنالك حقيقة كبرى أو حقيقة مطلقة وراء كل شئ تظهر على أشكال مختلفة، وليس هذا الكون من أوله إلى آخره إلاّ تجلياً لتلك الحقيقة. ومن المستحيل حسب فلسفة هاتين الديانتين أن يرى الانسان الحقيقة الكبرى، ولكن بإمكانه أن يرى صوراً لها في الانسان والحيوان والأرض والنار والماء والهواء والظواهر الطبيعية، وفي الخير والشرّ، وفي الحياة والموت. ويعتقد المؤمنون بالديانتين أن من واجبهم أن يتحرروا من قيود الجسم وينطلقوا إلى الزهد والتقشف والخلاص من الشهوات، وأن يبتعد عن متاع الدنيا ويدير ظهره للكون، ويتحرروا من كل قيد حسي ويحققوا الخلاص لأنفسهم من أجسامهم، فالجسم سجن النفس. فإذا تحقق لهم ذلك فقد تحولوا إلى نفس، وتحولت النفس إلى إحتضان النفس الكبرى. فإذا فعلت فقد عادت إلى مصدرها الأول. بمعنى أن العظمة الأخلاقية حسب هذه الفلسفة هي (جهاد النفس) ، أي أن تعتمد على نفسك في محاربة نفسك!. وهنا وطبقاً لهذه الفلسفة فإن حياة الانسان الصالح يمر بأربعة مراتب: المرتبة الأولى الطفولة المخصصة لحب الحياة. المرتبة الثانية الشباب لمتعة الحياة. المرتبة الثالثة الرجولة لحمل المسؤولية. والمرتبة الرابعة الشيخوخة للفكر ومن ثم الاتصال بالالوهية(5). فالروح بلا بداية ولا نهاية، والكون كله ليس إلاّ رموزاً إلى الحقيقة الكبرى أو الروح المطلقة، وأن الروح إذا تنفست ظهر هذا الكون! كما جاء في كتاب (الأوبانيشاد). أو أن الروح – كما جاء في كتاب (باجفادغيتا)- هي عين العين، وأذن الأذن، وقوة القوة ، وعقل العقل ، وجسم الجسم ونفس النفس…فالروح هي التي تجعل العين ترى ولكن العين لا تراها، وهي التي تجعل الأذن تسمع ولكن الأذن لا تسمعها!.
إذن الروح مقدسة رحمانية(6) لا تموت حسب فلسفة الديانتين الهندوسية والايزيدية. في الهند وعند الهندوس بالذات، إذا توفي شخص ما، يظل الناس يصلون للروح عشرة أيام(7) حتى تتمكن من الدخول في جسد آخر لتكمل تكفيرها من خطاياها السابقة، أما إذا لم يصل أحد لهذه الروح فإنها تظل هائمة بين الانسان والحيوان والأشجار بلا مأوى معذبة ملعونة مطرودة.
وتقول الديانتان بأن الحياة عذاب وعلى الانسان أن يتحملها لكي يتخلص منها، ولا خلاص منها إلاّ باحتقارها والزهد فيها. وفي الزهد أكبر دليل على على قدرة الإنسان. فالانسان له قدرتان: القدرة على جسمه والقدرة على نفسه عندما يجعلها تتحد “بالروح وراء كل وراء” أي بالروح المطلقة، أي “الله”، وإن كانت الهندوكية لا تستخدم كلمة الله الواحد الأحد، لأن عندهم عدداً كبيراً من الآلهة، أو من المقدسات التي لها مقام الآلهة(8).
معظم مظاهر الطبيعة، تقريباً، مقدسة لدى الديانتين. يقدم أتباعهما إنتهالات وأدعية إلى تلك المظاهر كالفجر والشمس والقمر والنار (أجني) والريح (فايو)، وإله السحب والمطر والرعد والماء (فارونا)، وإبتهالات إلموت (ق. سه ره مه ركى) والآباء (خودان) وآلهة الحياة وآلهة الخلق وللأرواح ولصانع الكون وللزمن الذي يشبه حصاناً(9) يجري في دقة وقد وضع على ظهره إناء ماء ممتلئ بالماء فلا تسقط منه قطرة واحدة.
يقول المطلق الموجود في كل شيء ، الموجود في مظاهر الطلبعة والكون: إنني أنا كل شئ. أنا مصدر هذا العالم، وأنا سبب تفككه. لا شئ فوقي. كل شئ ملتصق بي تماماً كما تثبت الأخجار الكريمة في خيط. أنا طعم الماء، أنا نور الشمس والقمر، أنا صوت البحر والهواء وكل ما يرتطم على الأرض. أنا البذرة القديمة لكل الكائنات، وأنا عظمة كل ماهو عظيم. ركز تفكيرك فيّ “ضع عقلك عليّ” حينئذ تعيش فيّ.
فلسفة الديانتين تتدرج في مراتب من الأدنى إلى الأعلى حيث السمو والسلام كالآتي: الممارسة-المعرفة- التأمل- الزهد- السلام. أي أن الهدف الأسمى للحياة بالنسبة للمؤمنين أن ينكر الانسان جسمه، وأن يتنكر لنفسه، وأن ينجو بنفسه من جلده. فالحياة حرب مع النفس لإذلال الجسد والقضاء على النفس والتوقف نهائياً عن الاحساس بشئ. هذه هي السعادة المطلقة والخير الأسمى ، وهو “العدم النشوان”! لكل هندوكي، وكان هذا نفس الهدف الأسمى للأيزيدي المؤمن قبل قرن أو قرون خلت!!.أسطع مثال وأصدق تعبير عن حالة الزهد والتقشف والتصوف التي نحن بصددها هو ما يتضمنه النص الديني (العين واللسان والنفس) والحوار الشيق الذي يجري بينهم. أما حول كلية (الحقيقة الكبرى) أو (الحقيقة المطلقة) يمكن قراءة ما يرد في النص الديني ( ألف إسم واسم) على لسان (ايزي)! أو كيف يصور كتاب (مصحف رش) قوة ومكانة ودور طاؤوس ملك في الكون!.
الى جانب تقدم الحضارات وقيام الحروب بين الامبراطوريات القديمة وسيطرة القوية منها على الضعيفة، كانت المعتقدات الدينية والفكرية تتغير هي الاخرى، وكان يزداد الميل لاستبدال حكم آلهة الظواهر الطبيعية المتعددة بسلطان الإله الواحد والاقتراب أكثر فاكثر من فكرة الإله الملموس الى فكرة الإله المجرد. وهنالك أراء متعددة بشان ظهور إله التوحيد؛ منهم من يربطه بقيام دولة ميديا ( 632 ق.م) التي مهدت الطريق للانتقال من ظاهرة تعدد الآلهة الى إله التوحيد(10) ومنهم من يقول بانه ابتدأ مع البابليين وتسارع في كل مكان فيما بعد(11) ويقول الايزيديون بانهم أول من توصلوا الى فكرة (خودى_الله) و(طاؤوس ملك).
خليل جندي
مانيلا في 4/1/2019
المصادر والهوامش
(1) حول هناهين و زغاريد الأعراس، راجع: جورج كدر(كاتب وباحث سوري)، تاريخ كلمة “لي اي ليش” وحقيقة معبد لالش الايزيدي، موقع اولتر أصوات بتاريخ 8/1/2016.
(2) أنيس منصور، ديانات أخرى، دار الشروق، الطبعة الثانية 2007، ص 9.
(3) يلاحظ بشكل واضح دور ومكانة بعض الحيوانات، وبعض الأشجار، في الديانة الايزيدية وارتباط كل واحد/واحدة منها باسم أحد أولياء (خودان) الايزيدية: (الغزال، الغنم، الأرنب، الحمامة، الحيّة، العقرب، الثور، السمك، شجرة الزركوز والزيتون،شجرة الدفلي…) والطاؤوس الذي يمثل بـ (السنجق) يعتبر رمز الديانة الايزيدية المقدس. وطير الطاؤوس بالاصل طير هندي وصل عن طريق التجارة الى إيران ووادي الرافدين، وصار يرمز الى الخلود والروح الطاهرة في المسيحية. وفي الاساطير الهندية يمثل الطاؤوس الاعين الكثيرة التي لا حصر له ويمثل السماء ذات النجوم. وما زالت قبيلة موري Mauri في أواسط الهند تعبد طير طاوؤس.
(4) أنيس منصور، مصدر سابق، ص 16.
(5) للمزيد مراجعة أنيس منصور، مصدر سابق، ص17.
(6) العديد من النصوص الدينية الايزيدية تشير الى قدسية الروح وخلودها وخلقها الخالق ووضعها في القنديل، ويظهر بأن الروح هي الخالق أو تحمل صفاته!!
(7) تعتقد الايزيدية بأن الروح بعد أن تفارق الجسد، تبقى هائمة لمدة ثلاثة أيام حول بيت أهلها ، وفي عيد بيلندا شهر كانون الثاني من كل عام تذهب النساء الايزيديات لزيارة القبور مصطحبين معهن أنواع الموكولات اعتقاداً منهن أن الروح تحوم في ذلك اليوم لرؤية أهلها!!
(8) أنيس منصور، مصدر سابق، ص 21.
(9) لاحظ دعاء الصبح والمساء الذي يقول: (يا سوارى روز هلاتى روز ئافايى…) = يا فارس طلوع الشمس ومغيب الشمس. كأن هناك فارساً يمتطي صهوة حصان تجر الشمس في عربة من المشرق إلى المغرب!
(10) رشاد ميران .مصدر سابق . ص19.
(11) سنان بن ثابت . الصابئة المندائية “إشكالية التسمية” الثقافة الجديدة . العدد 248 آب\1992 ص32.