اخبار

وإذا سئلت.. بأي ذنب..؟!

مريم عرجون

 

ركبت قطاري متوجهة نحو ضاحيتي الصغيرة ورنين صوته لا يفارقني وهو يروي لي الأهوال والظلم الذي رآه هناك حيث غابت الإنسانية. صوت بداخلي كان يصيح: رباه.. كيف منحته القوة ليضحك ولتنبعث من تقاسيمه كل هذه الطاقة وكل هذا الأمل!؟.
في لحظات الانتظار التي جمعتنا في محطة قطارات كولونيا بعد إنتهائنا من المشاركة في دورة تكوينية حول “صناعة السينما” أخبرني سفيان بنبرة هادئة ونظرة غير مصدقة لما رأت فيقول :
“لم أختر أن أحمل السلاح وإنما أجبرت عليه.. فالخطر هناك في كل مكان والموت هو أقرب صديق إليك، والقوم ما كانوا ليسمحوا لي بالتصوير لولا ذلك. لم أختر أن أرى الجثث والاشلاء، والموتى بالعشرات وأن أرى أطفالا وأمهات وشيوخا يذبحون وآخرين يموتون عطشا وقهرا، لا لشيء سوى لأنهم وجدوا كما أوجدهم الله، وعلى ملة ما اختاروها ولكن ولدوا عليها”.

يستنشق نفسا عميقا ثم يواصل:”لم أختر أن أرى صديقا وقد فارق الحياة أمامي بعدما ارتمى على صدري حين تلقى طلقة من قناصين موجودين بين كل الثنايا هناك.
هناك حيث لا أكل لا ماء، ولا حتى أحذية تقي أرجلهم الصغيرة.. أنظري إلى هذه الصورة. كم هي بريئة أعينهم وكم هم شجعان إذ يلعبون ويضحكون حيث غابت الحياة”.
كانت دقات الساعة تمضي بسرعة. كدت أسمع دقاتها وهي تختلط بدقات قلوب الأطفال الذين حدثني عنهم.
نظرت إليه والأسئلة تتزاحم في ذهني، فيما واصل هو الحديث قائلا :” أحيانا أتساءل أين هو الخلل..؟ لقد احتجت لوقت طويل كي أتعالج نفسيا من الأهوال والظلم الذي حدث أمام عيني باسم الدين. ألا يكفي المرء أن نكون فقط إنسانا بغض النظر عن عقيدته..؟”.

كنت خارجة للتو من جامعة كولونيا بعد أن انتهينا من الورشة التكوينية الخاصة بصناعة الفيلم السينمائي التي نظمتها المؤسسة المغاربية الالمانية برئاسة الاعلامي منصف السليمي، وأطرها المخرج والمنتج العراقي الالماني نوزاد شيخاني. لقد تلاقح ما سمعته من سفيان مع إصرار نوزاد على التحديات التي تواجهنا، حين خاطبنا قائلا :” يا شباب.. تقع على عاتقنا مهمة صعبة وكبرى، فهناك مثل يقول “أولاد الحرام لم يتركوا لأولاد الحلال شيئا”.. نحن نعيش في عصر يعاني من أزمة تعايش وتشويه للأديان وللإنسان وللأقليات في كل مكان. ونحن نعاني في المهجر من شتات القوى وعدم توحد الأهداف ومن الصورة المغلوطة عنا هنا ومن التعصب هناك. نحن اليوم مجتمعون ليس فقط لنتعلم تقنيات الفيلم والتصوير ، وإنما لكي نواجه.. وتذكروا أنه لايجوز على الفنان وصاحب القضية أن يؤمن بالمستحيل.. أو أن يقول شيء ما أنه صعب.. أو أن يقول غير ممكن.. نحن طيور حرة تحلق إلى ما لانهاية.. ونتعلم من أصغر الاشياء إلى أكبرها.. وتيقنوا أنكم حين تؤمنون بالفكرة وتكون صرختكم حقيقية، فسوف يسخر الله لكم طاقات الكون لمساعدتكم بطريقة مذهلة. ما عليكم إلاّ أن تؤمنوا بفكرتكم وأن تثقوا بأنفسكم. واجعلوا الهم الإنساني هدفكم في الحياة”.
كان أكثر ما سيطر على تفكيري وأنا أستمع لإرشادات وفلسفة هذا الشخص وعبر الأراء المسجلة التي سمعتها عنه وعما يسعى إليه عبر أعماله في عالم الصورة وشاشة السينما وكيف يركز على معاناة الشعوب ونقل آلامهم وآمالهم، هو شخصية الراحل مصطفى العقاد، المخرج العربي الوحيد الذي استطاع أن يترك خلفه بصمة في العالم بكيانه العربي، حاملا معه همّ الإنسانية والذي كان يحرص على أن يقدم لكل جمهور فكرته بالطريقة التي يفهمها هو. أتذكره وهو يقول : لقد كان أعظم ما سمعته في حياتي هو كلمة رجل ركض خلفي وهو ينادي “أستاذ مصطفى.. ربي ياخود من عمري ويزيد في عمرك لكي تعلمنا وتعلم أولادنا.”
يخبرنا الشيخاني :” لكي تكون مؤثرا يجب أن تتعلم كيف تكون مبدعا وملما في نوعية التقنيات التي تأثر على عين وقلب المشاهد فنحن نتعلم لكي يكون لنا بصمة في نقل قضايا الإنسان وتوعية المجتمعات وأن يكون لنا ضمير فلا نسيء لأي أحد أو نخدش أخلاقيات العامة للمجتمعات”.
بعد أن عدت راسلت سفيان على الخاص وسألته : “ما هي أهدافك الأن يا سفيان.. وكيف ترى الحياة بعد كل ما مررت به؟ّ”
فأجاب : “التغلب على العقبات التي تواجهني من أجل تحقيق المزيد من النجاحات والاستفادة من الوقت.

الحياة تجارب و مواقف ، والمواقف التي مررت بها في عملي كمصور و اعلامي حربي لن أنساها ما حييت.. رأيت الناس ميتين متناثرة و مقابر جماعية والباقي يعيش بين الحرب و الدمار و الحصار.. بإختصار لقد رأيت جهنم في شمال العراق تحديدا في قضاء سنجار التابعة لمحافظة نينوى. أحاول أن أوصل أرشيفي إلى العالم أجمع لكي ياخذوا منه درس و يتركون الحرب و القتل.. أتمنى من العالم أن يترك مصالح دولهم المبنية على دم الإنسانية في شرق الأوسط وفي كل مكان.. أريد أن نعيش كلنا مع بعض بإسم الإنسانية ولهذا سوف أسخر عدستي وكل ما تعلمته قديما واليوم وما سأتعلمه غدا في مجال الصورة والإعلام.”

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى