اراء

الأسرة في المجتمع الأيزيدي الألماني

مراد سليمان علو 

 

مدخل سريع:

كيف يفترض بي أن أبدأ الحديث عن الأسرة الأيزيدية، وخاصة تلك المهاجرة الى ألمانيا؟ قد أجانب الحقيقة في كلامي إن لم أقل بأن الأمور الاجتماعية تكون عادة نسبية حالها حال معظم الأشياء الأخرى في الحياة.

قد لا يرضى على هذا النوع من الكتابة مني، بعض الأصدقاء (على قلتهم) وبعض المتابعين الكرام من القراء فأنا في نظرهم شاعر حداثوي، وكاتب قصص وروايات وحكايات سريالية بعيدة عن هذا النوع من الكتابات. والمشاكل الاجتماعية العويصة في مجتمعنا المهاجر، وكذلك الصامد في الوطن؛ يوجد من يتصدى لها من المختصين من خريجي العلوم الاجتماعية، ومن لف لفهم من الباحثين.

وكما ذكرت في كتابات سابقة هؤلاء المختصون يتسمون بالكسل وبفقر أدواتهم التي يستخدمونها في البحث والكتابة، فلا بأس أن تناولت ظواهر سلبية تنخر جسد هذا المجتمع الفتي القادم من أرض الظلم.

طوال سنوات الهجر ـ والتي تبدو لي طويلة نسبيا ولن تنتهي ـ عندما نزور أسرة مهاجرة، ونطلع على أحوالهم وتكون بيننا وبينهم مودة تتيح لهم أن يتحدثوا إلينا بحرية، عندها نرى الأعاجيب. وسنرى أنفسنا محاطين ببعض أعظم الكنوز الدفينة في نفس الإنسان المهاجر.

قد نبدي إعجابنا بفلان أو علان من الناس، ونضرب الأمثال ونرفع من عقيرتنا ونقول لفتياتنا ونسائنا والناجيات في مجتمعنا: أن (شجر الدر) أصبحت سلطانة المماليك في حين أنها كانت سابقًا جارية لدى (الحرملك)، وان (ماريان أندرسون) هي أول امرأة سوداء أمريكية تغني على (مسرح أوبرا ميتروبوليتان) الشهير في نيويورك في سنة (1955). أو نادية مراد كانت سبية لدى تنظيم (داعش) وتحررت ونالت جائزة نوبل للسلام وأصبحت سفيرة للأمم المتحدة ومن ثم نالت شهادة البكالوريوس في علوم الاجتماع من جامعة أمريكية.  

ولكن والحق يقال علينا ان نقيم علاقاتنا مع الاخرين في الغربة على اساس التواصل وليس على اساس النصائح والإرشاد مثل رجال الدين والسياسة. وإن تسنت لنا الفرصة لفهم شخصياتهم ونفسياتهم سنختار الجوانب غير المعروفة، أو حتى المظلمة لنكتشفها من جديد، وحينها قد تتغير وجهة نظرنا إلى بعض أولئك الذين نحبهم؛ لأننا سنكشف أسرارا لم نكن نراها بالعين المجردة، أو نسمعها عنهم. أو لم نكن لنصدقها لو سمعناها من الغير.

علينا أن نتذكر أن المئات من فتياتنا لا زلن في الأسر مختطفات ويقبعن في سجون (داعش) وربمّا أغلبهن لن يرجعن الى عوائلهن ثانية.

ونفس الشيء ينطبق على أمور الناس في الحياة العامة، فليس كل الدروب مفروشة بالورود، فها هو ستيف جوبز مؤسس شركة أبل قد رسب في عامه الجامعي الأول وقرر ترك الدراسة بعد فصل دراسي واحد نظرًا لضائقة مالية ألمت بعائلته. فكم من شبابنا تركوا مقاعد الدراسة، أو لم يكملوا تعليمهم على غرار جوبز؟ ولكن لم يكونوا ذوي حظوظ في حياتهم مثله.

عن نفسي لم أفكر يوما بالغوص في عوالم الأسر المهاجرة، ففيهم ما يكفيهم كما يقول المثل الدارج، وكشف أسرار أشخاص كانوا يعتمدون على كتماني لتلك الأسرار، صغيرة كانت أم كبيرة. ولكن يبدو إن التعمق في العلوم الاجتماعية باعتباره يقترب من الفنون التي تكون دراستها: فن وتحقيق والعثور على الجوانب المخفية بحل ألغاز العلاقات التي تعتبر معقدة للناظر إليها من بعيد؛ يغري بالكشف عما يدور في فلكها.

الكتابة في هذا المجال عندما يعجز بعض ما يسمون أنفسهم بالباحثين والكتاب وحتى الصحفيين الذين يحلوا لهم أن يطلقوا على ذواتهم بـ الإعلاميين إما لافتقارهم للأدوات التي تؤهلهم في الخوض في غمار تلك المهاترات والشد والجذب بين الفرد والأسرة من جهة وبين الأسرة والمجتمع من جهة أخرى، وبالتالي الابتعاد عن تلك المشاكل، أو عدم قدرتهم على التعبير وربط الأحداث ببعضها. وبالتالي هي فرصة رائعة بالنسبة لي، وبدأت استمتع بالكتابة عنها. وأرجو أن يكون وصفي دقيقا وقريبا من الواقع؛ فلكل كاتب رؤياه وطريقته الفريدة في التعبير عنها.

 

الأسرة الأيزيدية في المهجر كما في الوطن:

ينشأ الفرد الأيزيدي بصورة عامة في كنف أسرة تتقلب بين رغبة في تحصيل أبنائها العلم والوظيفة الحكومية، وبين الحاجة لتوفير القوت اليومي ومساعدة العائلة بالعمل ليستمروا في العيش.

ومن شأن هذه البيئة أن تنتج عادات وهي تبدو لي ظواهر اجتماعية سلبية، والتي هي بطبيعتها ظواهر نفسية اجتماعية، وتكون نتيجة عوامل خارجية تساعدها على الظهور في أغلب الأسر الا ما ندر.

لا شك نقص الثقافة العامة والمعلومات داخل الأسرة لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا، هي التي تجعل من هذه العوامل أن تنمو حتى تنتشر وتصبح ظاهرة في المجتمع باعتبار العائلة هي اللبنة الأولى في تكوين المجتمع.

لا أدعي بأنني استوعب كل تلك العوامل التي أسهمت في تكوين هذه العادات داخل بعض الأسر الأيزيدية المفككة في ألمانيا، أو في حوض جبل شنكال. فذلك أمر لا طاقة لي به. ولكنني مطلع على عدة عوامل ـ باعتباري مهاجرا مثلهم ـ تجمعت تلك العوامل المختلفة، وتفاعلت مع بعضها وأحدثت هذا التغيير الذي نرى أثره واضحا في تصرفات أفراد الأسرة الواحدة.

 

فشل محاولة اللحاق بالمجتمع الألماني:

 نلاحظ بوضوح ظاهرة وقوع الفرد المهاجر تحت تأثير نزعة الجاه والغنى، فقد زرع في عقله الباطن، ان اليوروات تنمو على الأشجار في أوربا، وما أكثر الأشجار في ألمانيا. يحاول المهاجر الحصول على عمل ما بطريقة غير قانونية، فهو بالتالي في بلد اقتصاده قوي، والحصول على عمل سهل.

والطريقة القانونية هنا في الدوتشلاند أن تمارس عملا من خلال نيلك إجازة تتيح لك بممارسة ذلك العمل، وتسمح للحكومة أن تفرض عليك الضرائب المناسبة، ولكن الجماعة هنا يتهربون من كل شيء قانوني وبالتالي تخلق فجوة ما بين الناس المهاجرة والقانون الذي أوجد أصلا لحمايتهم ومن أجل حماية مصالحهم فينقلب القانون نفسه ضدهم بعد أن أوجد لحمايتهم.

المهاجر ومن خلال تعامله مع الموظفين في دوائر الدولة في الوطن يحسب أن جميع الموظفين مرتشون ويحاولون أن يحصلوا على الرشوة بطريقة أو بأخرى من المواطن الذي لا حول له، وهو بالتالي يتجنب المرور بهم، أو الرجوع إليهم والتعامل معهم. فتحدث له مشاكل قانونية هو في غنى عنها.

وكذلك يمكن الحصول على بعض الخدمات المقدمة للمهاجرين من قبل المجتمع، مثل الانخراط في النشاطات التي من شأنها أن تعود بالفوائد المادية أو العينية للأسرة. ربمّا ليثتباهى بها أما ناسه وأقربائه في الوطن، وهم بدورهم يظنون من يصل الى هذه الأراضي يجمع النقود جمعا فيطلبون منه أنى يرسل لهم ويقدمون في سبيل ذلك حجج لا تعد ولا تحصى. فنراهم حتى لو كانوا غير محتاجين يحاولون الحصول على الاشتراك في الجمعيات الخيرية لتوزيع المواد الغذائية والتي تسمى هنا بـ (التافل): وهي مراكز خيرية موجودة في كل مدن ألمانيا أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية لمساعدة من لا دخل له، وغير قادر على العمل، ولنجاح التجربة استمرت الى الآن، وهي ناجحة بكل المقاييس.

أو المرور على مكبات النفايات في نهاية الحيّ السكني للحصول على قطع الأثاث المستعمل والتي تستغنى عنها العوائل الألمانية، فمن عادة العوائل الألمانية تجديد ديكورات وأثاث البيت كل عام أو عامين والجري وراء الموضة. ورمي ما هو قديم أو يكون قد مضى على شراءه عام، وربما أقل.

نرى العائلة العراقية بصورة عامة ومنها الأيزيدية المهاجرة تعودت على البطاقة التموينية الشهرية في الوطن، وعاش حصارا لا يرحم لعقد من الزمن وكان محتاجا، وتجذر ذلك في عقلها الباطن، وبذهابها الى جمعيات المساعدة تضمن حصولها على ما يكفيها وزيادة من اللحوم والخبز والفواكه وما اليه من مواد غذائية، فهي تظن بأن حرب ما والحاجة للغذاء قادمان ثانية لا محالة. وحدوث الحرب بين أوكرانيا وروسيا وهجرة الأوكرانيين الى أوربا وألمانيا خاصة زاد الطين بلة.

في السنة الأولى من سكننا في مدينة ألمانية، كلما سمعنا صوتا عاليا يوحي بحدوث حادثة كانت مألوفة لنا في الوطن، البعض منا كان يفز من مكانه ويتساءل عمّا يجري. حتى أصبح الأمر مضحكا.  

وقد يعود هذا الأمر الى دافع نفسي فقد عانى هذا المهاجر الويلات في بلاده وعاش محتاجا وعانى هو وعائلته الجوع والفاقة جراء الفرامين وسوء توزيع الدخل القومي من قبل السلطات الفاسدة، فهو ملتاث وحريص على أن يخزن كل ما من شأنه أن ينقذه من جوع وحاجة.

أتذكر وحتى وقت قريب كانت الأسرة السعيدة في ريف شنكال هي التي تحتفظ بعدة أكياس من الحنطة أو حتى الشعير؛ لضمان توفر الخبز وقت الحاجة اليه.

هنا وفي نهاية الأسبوع ترمي تلك العوائل أضعاف ما ترميها العوائل الألمانية في مكبات النفايات من أطعمة ومعلبات ولحوم قد فسدت لأنها تحاول الحصول على أكثر من حاجتها بكثير، وفي نهاية الأمر، الحل يكون برميها في حاوية النفايات المخصصة للطعام؛ لأنها تحصل على الجديد منها.

ونفس الشي يحدث مع عوائلنا في مسألة الأثاث المستعمل. قال لي صديق مقرب أنهم في بداية هجرتهم ولمدة سبع سنوات متتالية كانوا يأخذون من مكبات النفايات كل شيء صالح للاستعمال من أواني وكراسي وأثاث متنوع … الخ وفي السنة السابعة وبعد أن توظف أحد افراد العائلة وتعودوا على المعيشة وطبيعة وأسلوب الحياة هنا، قاموا برمي جميع ما في البيت من أثاث قديم ومستعمل، بعد أن أصبح كمخزن يحتوي على جميع أنواع الأثاث، وشراء الأشياء الجديدة للحاق بالركب.

لا يخطر على بال أحدكم أن تلك المواد أو الأثاث غير صالحة، فهي من الجودة بحيث يمكن استخدامها حتى ينتهي عمرها الافتراضي.

ولكن العادة هنا هي شراء الطعام الطازج من لحوم وفواكه… الخ كل أسبوع، والتخلص من الزائد في الأسبوع الذي قبله ورميه. وكذلك استبدال معظم الأثاث بآخر جديد كل موسم.

لا شك أن القدرة الشرائية العالية وتوفير العمل المناسب، وكذلك توفر تلك الأشياء بكثرة في ماركيتات ومخازن كبيرة ومشهورة لا حصر لها، وطرق التسويق الحديثة التي تقوم بإغراء الفرد ليكون استهلاكي بامتياز. كل هذا يصب في بوتقة العادات ومع مرور الوقت تصبح ظاهرة اجتماعية ألمانية يصعب التخلص منها؛ مادامت الحكومات الديمقراطية المتعاقبة لا تسرق، وتقوم بواجباتها على أكمل وجه.

 

 حال الأسرة الأيزيدية وطموحاتها:

بعض الذين تعرفهم الأسرة، وكذلك بعض أفراد الأسرة نفسها قد ماتوا قبل أن يحضروا الى هنا، هم ضحايا الحروب والآفات والأمراض في الوطن. لا شك الأحياء منهم يستوحشون من ذلك فيرثون جراء ذلك صراعا نفسيا يصيبهم، ويربك تفكيرهم.

ويحاولون أن ينشؤوا ما عجزوا عنه في بلدانهم نتيجة القهر هناك، ومساحة الحرية الفردانية والديمقراطية التي تسود المجتمع هنا.

وأضافت هذه الفوارق عاملا إضافيا في خلخلة التوازن في الأسرة وفي المجتمع الأيزيدي بصورة عامة فنراهم في كل مدينة ألمانية يسارعون للتكتل والى التجمع من أجل استرجاع ذكريا الماضي المؤلم، وتراهم قد بدأوا بأنشاء بيت أيزيدي وهذه البيوتات الرسمية وغير الحكومية (وهذا هو تعريفها المختصر) بدلا أن تقدم خدمات إيجابية ومعرفية وفكرية للأسر تقوم بخداعهم من جديد والحصول على أصواتهم واستغلالهم لأغراض شتى.

هذه البيوتات بدلا أن تستفاد من تجربة أعضائها في الوطن؛ يحاول البعض القليل المستفيد أن يرمي بشبكة الجميع في بحيرة الأحزاب ثانية ويجد الأيزيدي نفسه وقد انتمى من جديد وكل محاولاته للتخلص من الانتماء الحزبي قد ذهب أدراج الرياح.

لا يعلم المهاجر الى ألمانيا بأنه لو أراد أن يصنع صاروخا أو مركبة فضائية ستقول له الحكومات والأحزاب الألمانية: نحن معك، وما تحتاجه سنوفره لك. ولكن يبدو ان الشرقي بصورة عامة ومنهم الأيزيدي لا يستلذ بالعيش الا تحت أمرة أحدهم ويكون في ظل جناح حزب ما، أو جماعة ما. وبعد أن يتضح له حقيقة الأمر نرى بأن الفرد الأيزيدي يصيبه الإحباط ثانية ويكون هذا عاملا إضافيا يؤدي به الى التراجع في نواحي الحياة التي من المفروض قد فتحت ذراعيها له، بعد أن تخلص من الحاجة والفقر والتسلط.

 

عامل آخر:

لا بد من التطرق الى عامل آخر قد يكون مباشرا لبعض العوائل ونراه غير مباشر لقسم آخر من العوائل التي اختارت الهجرة بدلا عن البقاء في وطن منهوب.

يصح القول إن سنة (2014) كانت من أسوأ السنوات التي مرت على أيزيديّ العراق، ومن جميع النواحي. فقد صدرت بحقهم فتوى من تنظيم (داعش) الإرهابي؛ نتج عنه فرمانا أودى بحياة الآلاف منهم: قتلوا الشيوخ والرجال واغتصبت النساء وسبيت الصبايا وخطفوا الأطفال، وسرقوا المال والحلال، وهدموا المنازل والمباني..

بعد تلك الإبادة الجماعية، ومحاولات الهروب لأجل انقاذ الأرواح باتت المجتمعات الأيزيدية وخاصة المجتمع الأيزيدي الشنكالي ضعيفا وخائر القوى وغريبا مضطهدا يحاول انقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح بالهجر الى أوربا أو باللجوء الى كردستان في مخيماتها البائسة كنازحين.

وبعد مرور عام على الفرمان عادت هذه المجتمعات ثانية وتراجعت، فظهرت البدع والفتن والانتماء غير المشروط للأحزاب والجماعات والمنظمات، وانحراف البعض وانتشار ظاهرة الانتحار بين الشباب، وتفشي الانحطاط الخلقي بين الشباب من تدخين ولعب القمار وارتياد أماكن اللهو غير البريئة، والبطالة المقنعة، والدعارة. والمبالغة والكذب… الخ من ظواهر سلبية تبدو وكأنها لن تغادر ذاكرة المجتمع ولا عن تصرفاته.

بدا المجتمع وكأنه استنفد قوته للنهوض، فليت شعري كيف يمكن للجيل الجديد أن ينهضوا بعوائلهم في ظل هذه السلبيات التي تنخر جسده.

يقول ابن خلدون:

“أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع”. ولا يخفى بأن المجتمع مرتبط بالدولة بل لا يمكن أن يعيش بدون مساعدتها. أنا أعتقد انه من العبث على رب الأسرة النازحة في تلك المخيمات البائسة أن يناضل في سبيل اصلاح عائلته أو أمور مجتمعه. كل ما عليه أن يلملم أوراقه النقدية والثبوتية ويهاجر الى أرض الله الواسعة، ليبدأ من جديد. أو يعود الى قريته ويبدأ من تحت الصفر والله المستعان.

 

استقرار العائلة:

العائلة التي يوقعها القدر بين ثقافتين مختلفتين، تصبح تلك العائلة ـ أي كل فرد منها على انفراد ـ البوتقة التي ينصهر فيها تلك الثقافتين. وشيئا فشيئا، جيلا بعد آخر يمتزجون كليا مع الثقافة الجديدة ويستغنون عن أصولهم برضا بالغ.

بعد أن تعود العائلة الى قريتها في شنكال، أو تهاجر بلد أوروبي كألمانيا الخير، في تلك البدايات لا تفطن تلك العوائل الى التناقض الذي يحيط بهم والذي يعيشونه. وبعدها تأتي مرحلة لاحقة حيث يبدأ التناقض الاجتماعي والثقافي يسيطر على الأفراد؛ فتنشأ الأزمات وتأخذ القيم بالتفكك، فنسمع أن فلانا قتل زوجته في المدينة الألمانية الفلانية لأنها كانت تتحدث مع شخص آخر بالتلفون، أو أن فلانا طلق زوجته، أو بالأحرى الزوجة هي التي طلقته. وفي الوطن نسمع بفلان انتحر.. والخ من المشاكل التي ترغب الأسرة في الخلاص منها بطريقة بدائية فتكثر الشكاوى ويرغب البعض بالرجوع الى الوطن ويشتاق الى أيامه التي كانت اسرته لا تخالف امرا له.

زارني صديق وقت رقودي في المستشفى واجراء عملية جراحية لي، وقال بالحرف الواحد كما يقولون:

“المدينة التي أعيش فيها، تسكنها آلاف الأسر الأيزيدية، ومن بين تلك الآلاف يصعب على أحيانا اختيار شخص واحد ليرافقني في مشاويري”.

وما فهمته من هذا الزائر الكريم أن جميع الذين يعرفهم تكون جلساتهم وأحاديثهم حول الجنس والبحث عن الشقراوات. أو الذهاب الى نوادي القمار واللهو. وهذا يخالف نشأته. وطبيعته، ربمّا كان صديقي هذا كبير السن مثلي وقد انتهى زمانه، فلم يعد شابا ليبحث عن مغامرات عاطفية، ولهذا يتهم الآخرين بالفساد، وربما كان على حق، وعلى أية حال لا يمكن قياس الأمور من وجهة نظر واحدة فقط. وطاؤوس ملك يكون بالعون.

وأخير يصل الفرد أو العائلة جميعا الى حالة تحاول فيها الوصول الى سبيل للتوفيق بين جميع تلك العوامل المتناقضة، وغالبا ما يكون الصراع النفسي أقوى من أن يتحمله الفرد فيقوم بعمل من شأنه أن يؤثر على مستقبله. كأن يرجع للوطن، أو يعمل (بالأسود) كما يقولون، أي يمارس عملا غير قانونيا، أو يقوم بقتل زوجته أو اخته. أو تطلقه زوجته لأنه يعارض ما تلبسه.. الخ من الأفعال والتصرفات التي تكون نتيجتها تفسخ شخصيته وشخصية العائلة. ولا يسعه الا أن يقول: الخلف على الله.

القلة القليلة ينجحون بالاختبار ويتعلمون اللغة وينافسون الألمان في العمل والمراكز الرفيعة وتكون لهم شخصياتهم الجديدة المستقلة. ولكن هذا يحصل بالعمل الجاد وبالجهود الجبارة وتكاتف الأسرة ووعيها وأدراكها بما يحدث حواليها.

ومن هنا. من هذه النقطة أريد أن أركز على الحلول الفردية الشبيهة بتلك التي نادى بها الأسطورة خيري الشيخ خدر في السنة الأولى من الفرمان، بل في الأسبوع الأول عندما كنت برفقته في الجبل. دونت تلك الفلسفة المثيرة في كتاب (وجها لوجه مع داعش) وأرجو أن يرى الكتاب النور يوما ما وتقرأوه لتتطلعوا على رجل وقائد وحكيم قد سبق زمانه.

 

المجتمع الشنكالي وبعض المتفيهقين من الخارج:

من الدروس القيمة التي تعلمتها من هذا المجتمع: أنك ان لن تؤثر في الناس حين تنصحهم، ولن يصغوا اليك. فلقد أبتلى مجتمع شنكال الأيزيدي بعد سقوطه بعصابات من المشعوذين، من كل نوع بدءا من شيوخ عشائرهم، وانتهاء بأصغر كوجك؛ وربمّا لتلك الأسباب وغيرها نرى عزوف الكتاب والباحثين الشباب المجدين يبتعدون عن الكتابة وعرض مساوئ المجتمع لئلا يقلب عليه مجتمعه الذي ينتمي اليه ظهر المجن.

نرى وفود من الخارج: من أمريكا ومن ألمانيا ومن مختلف دول العالم، وأعضاء هذه الكروبات على الأغلب يتكون من الناس الذين عاشوا في هذا المجتمع، أو قد يكون بعضهم من مجتمع بعشيقة وبحزانى، ويبحثون عن فرصة لاستغلال هؤلاء المساكين بحجة بناء دار للثقافة أو تأسيس مكتبة أو عمل سيمنارات وندوات يعوجون بها أفواههم بمصطلحات غربية يظنون بها أنهم قد تجاوزوا الأولين والآخرين في علومهم ويوحون للحاضرين بأن مفاتيح تغيير المجتمع يكون بأيديهم، وعليهم أن يتبعوهم، ويسمعونهم.

وبالتالي نرى ان هذا الجهبذ قد رشح نفسه ليكون مسؤولا رسميا علينا بعد أن عجز أن ينال العلا في هجرته الى الغرب. ولو تأملتم الجوار ستجدون العشرات من هؤلاء يملئون الساحة ويضحكون على الناس.

 

عود على بدء:

لا يلام هذا القروي، ولا تلك الأسر الهاربة من بطش السلطات والأحزاب والعصابات الدينية. أنهم لا يعرفون تعليلا لما حدث لهم. أنا نفسي الذي تعتبرني مثقفا وداركا لأمور الحياة بحكم سني، لم أتمكن من تعليل الفرمانات المتكررة علينا، ولم أجد جوابا في مختلف الفلسفات التي قرأت عنها؛ لذا لابد أن تلجأ تلك العوائل أو المجتمع بصورة عامة وخاصة الشنكالي الى أسطورة المنقذ الألهي بانتظار أن يأتي شرفدين من الغرب ويملآ الدنيا عدلا وانصافا بعد أن أمتلأ ظلما وجورا. وهذا الفرد المسكين جالس لا يحرك ساكنا، ظانا أن جميع الناس أعدائه لأنه أيزيدي، وجميع الملل يغارون منه. ومع ذلك زرع في ضميره أنه لا بد أن يطلب الخير لهم. ومن هذا المفترق أيضا يصاب البعض وخاصة الناجون من الفرمان والناجيات بـ (متلازمة ستوكهولم).

يقول عليّ الوردي في كتابه (منطق ابن خلدون):

“ان المجتمع عبارة عن توازن بين دافع الواقع ودافع المثال، فاذا اشتط المجتمع في أحد هذين الدافعين كانت النتيجة مهلكة. فهي اما أن تكون جمودا أو تكون فوضى. وخير للمجتمع أن يكون على الخط الأوسط بين الجمود والفوضى. وهذا هو ما يحاول أن يفعله المجتمع في الحضارة الجديدة”.

وكذلك لن استغرب إذا ما وصفت هذه الدراسة ـ على بساطتها ـ بالتافهة، وقلت انه شرح اعتيادي لا تستحق أن يشغل المرء نفسه بها. فهي تبحث في عادات بعض الأسر الأيزيدية الشنكالية وأفرادها في المهجر وكذلك في الوطن.

وأنا لا ألومك في ذلك، فأنت متعود من الكاتب أن يقول لك أفعل هذا ولا تفعل ذاك. تماما كرجال الدين ورؤساء العشائر وأفراد العصابات. بدلا من أن يشرح لك ما تفعله فعلا.

 

النتيجة:

معظم الآراء التي كتبت عن المجتمعات الأيزيدية، وخاصة المجتمع الشنكالي تكاد تؤدي الى نفس الشروحات أعلاه، وان زادت أو قصرت بعض الشيء. فكل مختصر يمكن كتابة مقال أو أكثر عن المواضيع التي يتناوله.

أن الهجرة بذاتها ليست سوى ظاهرة اجتماعية، تكون سلبية للعوائل التي تسقط في امتحان الغربة، وتكون إيجابية لتلك الأسر التي تنجح وتجتاز الصعوبات التي قد تصادفها في الغربة.

وما نحتاجه في هذه المرحلة قبل غيرها جهود خريجي العلوم الاجتماعية والمختصين من ذوي الأفكار النيرة لخوض تجارب الكتابة عن هذا المجتمع، وتبان دروب الخلاص من السلبيات، والعادات السيئة بطريقة علمية وبحلول عصرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى