بعد عشر سنوات على هجوم داعش… لماذا لا يزال إيزيديو العراق يشعرون بالتهديد؟
ايزيدي 24 بالتزامن مع شبكة نيريج
أحمد المصالحة
عشر سنوات مرت على عمليات إبادة الإيزيديين بأيدي عناصر تنظيم داعش، مئات المؤتمرات عُقدت وآلاف المقالات كُتبت، لكن ما يزال الجهل المجتمعي بالديانة الإيزيدية والمعلومات الخاطئة عن معتنقيها كثيرة، ما يثير مواقف مناوئة لهم ورافضة لطقوسهم، تخلق بدورها خطابات كراهية تمثل مصدر خطر على التعايش السلمي في العراق.
تهمة “عبادة الشيطان” وادعاء التبعية للخليفة الأموي يزيد بن معاوية، جزء من معلومات خاطئة تنتشر عن الديانة الإيزيدية في المجتمع العراقي، ما يعده الإيزيديون جهلاً بديانتهم وتسويقاً للكراهية ويطالبون بوقفه، لمنع استخدامه مجدداً من قبل التنظيمات “الإرهابية” مثل “داعش” لتبرير عنفها ضدهم، ويؤكدون أن ديانتهم “موحدة وغير تبشيرية”.
تقول الناشطة المدنية نافين سموقي (30 عاماً) إنها عندما تُعرِّف عن نفسها كـ”إيزيدية” من سنجار، تتكرر على مسمعها نفس العبارات أو الأسئلة: “هل حقاً الإيزيديون يعبدون الشيطان؟” و”هل هم أتباع يزيد بن معاوية؟”.
تهمة “عبادة الشيطان” وادعاء التبعية للخليفة الأموي يزيد بن معاوية، جزء من معلومات خاطئة تنتشر عن الديانة الإيزيدية في المجتمع العراقي.
تعد سموقي الترويج لمثل هذه الأفكار تسويقاً لفكرة نبذ الإيزيديين اجتماعياً وبالتالي تعريضهم وديانتهم لخطاب الكراهية. لذا، تطالب بالعمل على محاسبة من يستغل مواقع التواصل الاجتماعي لنشر تلك “الأكاذيب” بشأن ديانتها.
وتضرب سموقي مثالاً على ذلك، ما نشره صانع محتوى عربي الجنسية، من مقاطع فيديو خلال زيارته قبل أشهر لمعبد “لالش”، أقدس المراكز الدينية الإيزيدية في العراق، ووصفه للمكان بأنه “معبد لعبدة الشيطان”. وتعقّب على ذلك: “هذا الوصف دفع العشرات من متابعيه إلى وضع تعليقات وكتابات مسيئة تجاه أتباع الإيزيدية، وفي المحصّلة تم التسويق لمعلومات خاطئة قد يعتبرها البعض حقائق”.
يقع معبد “لالش” في منطقة الشيخان التي تبعد 47 كم شمال مدينة الموصل مركز محافظة نينوى، وهو المعبد الرئيسي لأتباع الديانة الإيزيدية في العراق، وفيه تُقام المناسبات الدينية السنوية المختلفة.
يؤمن الإيزيديون بإله واحد وسبعة ملائكة، وهم ينتشرون في محافظتي نينوى ودهوك شمال العراق، وتقدر أعدادهم في العراق بنحو نصف مليون نسمة، ويتحدث غالبيتهم اللغة الكردية، كما يتم تداول كل تعليمات الديانة الإيزيدية من “أقوال ومواعظ وأدعية” باللغة الكردية، وهذا ما يجعل معتقدات الإيزيدي مجهولة للآخر غير الناطق بالكردية
وتتابع سموقي: “صانع المحتوى ذاك، نشر معلومات خاطئة خلال زيارته للمعبد، ولم يتعب نفسه بسؤال أي من خدام المكان أو أحد الزائرين الإيزيديين هناك أو أعضاء المجلس الروحاني الإيزيدي الذي يضم كبار رجال الدين الإيزيديين والذين يبعد مكان وجودهم عن موقع المعبد خطوات للاستفسار منهم عن دينهم ومعتقداتهم الصحيحة”.
يؤمن الإيزيديون بإله واحد وسبعة ملائكة، وهم ينتشرون في محافظتي نينوى ودهوك شمال العراق، وتقدر أعدادهم في العراق بنحو نصف مليون نسمة، علاوة على نحو مليون ونصف المليون موزعين بين دول العالم بعدما استقر كثير منهم في ألمانيا وأذربيجان.
ويتحدث غالبية الإيزيديين حول العالم اللغة الكردية، ما عدا الإيزيديين الذين يعيشون في منطقتي بعشيقة وبحزاني شمال شرقي الموصل، كما يتم تداول كل تعليمات الديانة الإيزيدية من “أقوال ومواعظ وأدعية” باللغة الكردية، وهذا ما يجعل معتقدات الإيزيدي مجهولة للآخر غير الناطق بالكردية.
بدوره، يؤكد الناشط الإيزيدي سيروان فندي (27 عاماً) تعرضه مثل غيره من الإيزيديين، لمواقف سلبية من أناس ذوي ثقافة محدود بعضهم قد يحملون شهادات عُليا “نتيجة تصورات بنوها اعتماداً على معلومات خاطئة”، مبيناً أن ذلك يسبب له أذىً نفسياً، لكنه على الرغم من ذلك يستمر في “محاربة المعلومات المغلوطة والتصدي لكل شخص يروّجها”.
وينبه فندي إلى أن “عدم قيام المؤسسات التعليمية والثقافية العراقية بواجبها في التعريف بالأديان المختلفة في البلاد، وعدم وجود منهج في مدارس التعليم الأساسي لتدريس معتقدات الفئات الدينية والمذهبية المختلفة، في ظل الهوة الاجتماعية نتيجة عقود من الصراعات الطائفية، ساهما في إبقاء الالتباس بشأن بعض الأديان كالإيزيدية والكاكائية والمندائية وغيرها”.
ويشير فندي إلى أن هذا ما دفع الكثير من الناشطين المدنيين والصحافيين من أديان مختلفة، إلى تولي هذه المهمة من خلال الانخراط في حملات توعية “وانضموا إلى زملائهم الإيزيديين في التصدي للكثير من المعلومات الخاطئة والعمل على تصحيحها”.
الاعتقاد الخاطىء عن الايزيدية
بحسب الناشط الإيزيدي نصر حاجي خضر، فإن الإيزيدية ديانة “توحيدية تؤمن بالله والملائكة واليوم الآخر”، لكنها تختلف عن سواها من الديانات التوحيدية الأخرى في طريقة العبادة، ويظل الجوهر هو “عبادة الله سبحانه وتعالى”.
ويذكر أن أول نص في الدعاء الإيزيدي يؤكد على وحدانية الله، وترجمته إلى العربية “الله واحد أحد، لا شريك له ولا صديق له، إن الله متجلٍّ بوحدانيته”، وكذلك تسمية الإيزيدية لـ”الله” هي “خؤدى” وتعني “من خلق نفسه بنفسه”، وهذا “قمة الوحدانية المتجسدة في الديانة الإيزيدية”، بحسب خضر.
“عدم قيام المؤسسات التعليمية والثقافية العراقية بواجبها في التعريف بالأديان المختلفة في البلاد، وعدم وجود منهج في مدارس التعليم الأساسي لتدريس معتقدات الفئات الدينية والمذهبية المختلفة، في ظل الهوة الاجتماعية نتيجة عقود من الصراعات الطائفية، ساهما في إبقاء الالتباس بشأن بعض الأديان كالإيزيدية والكاكائية والمندائية وغيرها”
ويضيف: “الباحثون الذين كتبوا عن الإيزيدية في النصف الثاني من القرن العشرين وجلّهم عرب لم يعايشوا الإيزيدية ولم يستطيعوا التواصل العميق مع أتباع هذه الديانة المنغلقين الذين ظلّوا بدورهم منغلقين على أنفسهم حتى نهايات القرن العشرين”، مردفاً أن هؤلاء الباحثين “تسبّبوا بكتاباتهم السطحية في تشويه الديانة الإيزيدية، خاصة ما يرتبط بموقفهم من الشيطان”.
تذكر الميثولوجيا الإيزيدية أن الله أمر الملائكة بأن يسجدوا لآدم بقصد اختبارهم، بعد أن كان قد أخذ عهداً منهم بألّا يسجدوا لغيره، فسجدوا كلهم إلا “طاووس ملك” الذي أبى السجود لغير الله، ففاز بالامتحان وأصبح أقرب المخلوقات إلى الله. وهو ما يجعله شخصية محورية في الديانة الإيزيدية.
هذه القصة، بحسب باحثين، دفعت بعض أتباع الديانات والطوائف الأخرى، إلى اعتبار “طاووسَ ملك”، الشيطان نفسه، ليوصف الإيزيديون على ذلك الأساس بـ”عبدة الشيطان”، رغم رفضهم ونفيهم لذلك، كونهم لا يؤمنون بوجود كائن شرير مثل الشيطان ويعتقدون أن الشر نابع من الإنسان نفسه.
يقول خضر إنه على الرغم من أن تهمة “عبادة الشيطان” موجهة للإيزيديين منذ القدم، لكن الترويج لها تم على نطاق أوسع في سبعينيات القرن الماضي إبان حكم نظام حزب البعث، و”تجدّدت وعادت إلى الواجهة من قبل التنظيمات الإرهابية مثل القاعدة ثم داعش لتبرير أفعال هذه التنظيمات الإجرامية ضد الإيزيديين، من قتل وخطف وغيرها”.
ويضيف الناشط الإيزيدي أن إثارة هذه التهم وتسويقها إعلامياً نجحا في التأثير على عدد من الشباب “غير الواعي”، فانجرفوا خلف تنظيم “داعش” وقبله “القاعدة” اللذين سَخّرَاهُم في “خدمة الأفكار المتطرفة، فقاموا بعمليات قتل واسعة ضد الإيزيديين، يسوقهم خطاب كراهية قوي”.
ونفّذ تنظيم داعش في الثالث من آب/ أغسطس 2024 هجوماً واسعاً على المناطق الإيزيدية في قضاء سنجار بمحافظة نينوى، أسفر عن مقتل 1293 إيزيدياً أغلبهم من الرجال، واختطاف 6417 إيزيدياً، منهم 3548 من الإناث ولا يزال مصير نحو ألفين وسبعمائة، معظمهم نساء، مجهولاً حتى الآن.
كما نفّذ تنظيم “القاعدة” بين عامي 2005 و2010 هجمات متكررة على الإيزيديين في محافظة نينوى، راح ضحيتها المئات، مثل التفجيرات التي حدثت بشاحنات مفخخة في ناحية القحطانية التابعة لسنجار في 14 آب/ أغسطس 2007، وراح ضحيتها 796 إيزيدياً وجرح 1562 آخرين، واعتبرتها الأمم المتحدة في حينه “أعنف وأكبر هجمة تستهدف المدنيين في العراق”.
ويرى الباحث في شؤون الأقليات والأكاديمي في جامعة دهوك في أقليم كردستان، خضر دوملي، في حديث أن الإيزيدية واحدة من الديانات الضاربة في القدم في بلاد الرافدين (ميزوبوتاميا) وأن وجودها كان حاضراً منذ أكثر من ألفي عام.
ويضيف أن “تسمية ‘إيزيدي’ تعني بالكردية ‘عبدة الرب’ وهذا دليل على وحدانية الديانة وهي من كلمة – أزداي – من خلقني – وإيزيدي يعني من خلق نفسه، وهي دليل على تبعية الإيزيدية في ديانته إلى الرب مباشرة”.
فجوة زمنية ولكن…
على جانب آخر، تنتشر معلومات خاطئة عن ارتباط الديانة الإيزيدية بالخليفة الأموي يزيد بن معاوية بن أبي سفيان يحسمها خضر بقوله: “ليس للإيزيدية أي علاقة بالخليفة يزيد بن معاوية”، مشيراً إلى أن هذه المغالطة ظهرت نتيجة تشابه الألفاظ بين “الإيزيدية” ولفظ اسم الخليفة “يزيد” لا أكثر.
دليل آخر على ذلك يسوقه دوملي، وهو أن هنالك فجوة زمنية كبيرة بين تاريخ الديانة الإيزيدية التي تعود أصولها لـ2000 عام قبل الميلاد، وبين الخليفة الأموي يزيد، الذي حكم في القرن السابع الميلادي.
كما يؤكد أنه من خلال هذه الفجوة الزمنية الكبيرة يتضح أن لا علاقة للديانة الإيزيدية بالخليفة الأموي، وأن الربط بينهما يهدف لوقع العداء بين الإيزيديين من جهة والمسلمين وبالأخص الشيعة منهم، ومن جهة أخرى المسألة “لا تتعدى التقارب اللغوي بين المفردات”.
ويزيد بن معاوية بن أبي سفيان، هو الخليفة الأموي الثاني، المتوفى عام 683 ميلادياً، وهو من الشخصيات التاريخية التي يُثار جدل كبير حولها لأن فترة حكمه شهدت واقعة مقتل الحسين بن علي، حفيد النبي محمد، وكذلك واقعة حصار جيشه لمكة المكرمة وضرب الكعبة بالمنجنيق.
بدوره، يؤكد أستاذ التاريخ بالجامعة المستنصرية د. علي النشمي، أن الإيزيدية ديانة “توحيدية” تمتد جذورها إلى حضارات وادي الرافدين القديمة قبل الميلاد، وتميّزت بتأثُرِها بالديانات القديمة كالزرادشتية ثم المسيحية والإسلام، مكرراً عدم وجود علاقة بينها وبين يزيد بن معاوية.
قانون صارم لمنع الكراهية
وعن أسباب انتشار هذه المعلومات الخاطئة، يوضح دوملي، أن الكثير من الكُتّاب لا يستطيعون التعمّق في الفلسفة والثقافة الدينية الإيزيدية، كونها مكتوبة ومتوارثة ومتداولة باللغة الكردية الكرمانجية، ولذلك كانوا وما زالوا يعتمدون على مصادر عربية سهل الوصول إليها وغالبيتها تنقل صوراً وتعريفات غير دقيقة، ومنقولة من بعضها دون التعمّق فيها وإجراء أي تحديث للمعلومات الواردة بشأنها والتي تضم الكثير من الأخطاء والمغالطات، وفقاً لتعبيره.
يواصل دوملي: “كما أن بعض المغرضين يحاولون إثارة الفتنة بين الإيزيديين ومن حولهم من مجتمعات مختلفة، عبر بث خطابات كراهية تتضمن معلومات ملفّقة ومن خلال إعادة نشر الأكاذيب بين فترة وأخرى بحسب الأجندات السياسية أو الدينية”.
وعليه، يطالب دوملي بسن قانونٍ صارمٍ لمعاقبة ومحاسبة كل من يروّج معلومات خاطئة بقصد بث الكراهية والفرقة بين معتنقي الأديان والمذاهب والمدارس الدينية بالعراق، مشدداً على أن “احترام وحماية حرية العقيدة والتنوع الديني أحد واجبات مؤسسات الدولة”.
تغيير المناهج الدراسية
المُدرس التربوي أيوب حسن، يرى أن مواجهة خطابات الكراهية والفرقة والتمييز، لا يمكن أن تنجح إلا من خلال المؤسسة التربوية التعليمية، ودعا إلى حملة وطنية لتغيير المناهج الدراسية في المراحل الابتدائية والمتوسطة بما يضمن تلقي الطلاب معلومات دقيقة عن الديانات المختلفة بعيدا عن التوجهات الطائفية.
تذكر الميثولوجيا الإيزيدية أن الله أمر الملائكة بأن يسجدوا لآدم بقصد اختبارهم، بعد أن كان قد أخذ عهداً منهم بألّا يسجدوا لغيره، فسجدوا كلهم إلا “طاووس ملك” الذي أبى السجود لغير الله، ففاز بالامتحان وأصبح أقرب المخلوقات إلى الله. وهو ما يجعله شخصية محورية في الديانة الإيزيدية
ويقول حسن، الذي تمتد خبرته لخمسة عشر عاماً في التدريس، إن “ما حصل للايزيديين من إبادة في العام 2014 بأيدي عناصر داعش وعمليات قتل واسعة قبل ذلك، يجب أن تمثل درساً اجتماعياً ووطنياً، فقد حصل كل ذلك اعتماداً على معلومات خاطئة تم تسويقها لعقود طويلة بشأن الديانة الإيزيدية، وتم خلال سنوات إثارتها مدفوعة بخطاب كراهية للآخر المختلف”.
ويشير إلى أن مئات المؤتمرات التي عقدت بشأن الإيزيديين وآلاف المقالات التي كُتبت “لم تغير الكثير من المفاهيم السائدة فما زال الجهل المجتمعي بالديانة الإيزيدية كبير، وهذا يثير مواقف مناوئة لهم تهدد بالنتيجة التعايش السلمي الهشّ في البلاد”.
ويتساءل الإيزيدي كامل حسو، الذي يعيش نازحاً في مخيم بأطراف مدينة زاخو قرب الحدود التركية، بامتعاض: “كل تلك الإبادات وشواهد القبور الجماعية المنتشرة في سنجار لضحايا العنف الديني، ألم تكن كافية لشرح من هم الإيزيديون وإنهاء التمييز وخطابات الكراهية وطي صفحة الماضي؟”.
يعرب الشاب الذي أكمل قبل أربع سنوات تعليمه الجامعي، ويعمل حالياً في مجال البناء، عن قناعته بأن قصة النزوح الإيزيدي المستمرة منذ عشر سنوات إلى مخيمات الداخل، ستنتهي بهجرتهم الأبدية إلى بلدان الخارج “طالما بقيت الدولة عاجزة عن وقف خطابات الكراهية المبنية على الجهل بمعتقدات وطقوس الآخر”.