طالبات مدارس المخيمات في شباك استغلال الكوادر التعليمية
ايزيدي 24 بالتزامن مع شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية
طلب مني علاقة حميمة وعندما رفضت جعلني أرسب في صفي”، بهذه العبارة تختصر الفتاة إيناس، أسم مستعار (16سنة) من قضاء سنجار غربي نينوى، قصة تعرضها للإبتزاز الجنسي في مدرستها الواقعة باحدى مخيمات النازحين الإيزيديين في محافظة دهوك باقليم كردستان، ولم تجد من يقف إلى جانبها على الرغم من شكوى تقول انها تقدمت بها للإدارة.
هي فقدت والدها خلال هجوم تنظيم داعش على سنجار في الثالث من آب/أغسطس2014، وعاشت مع خالها في مخيم جنوبي محافظة دهوك بإقليم كردستان، إثر زواج والدتها سنة 2016.
تردد كل ذلك وهي تحرك يديها بإنفعال ثم تصمت برهة قبل أن تضيف بحرقة:”مع كل الذي مررت به لم أفقد أملي بإكمال دراستي الإعدادية والوصول إلى الجامعة، كانت تلك رغبة والدي، غير أن ذلك التدريسي حرمني من تحقيق حلمي”.
بادئ الأمر، ظنت إيناس أن المدرس الذي بلغ عقده الرابع ويدرس احدى المواد العلمية، يريد مساعدتها بسبب ظروفها العائلية، فتقبلت اهتمامه بها وسؤاله المستمر عنها، لكنه يوماً بعد يوم، أخذ يرسل إليها رسائل عبر تطبيق واتساب، وباتت نواياه تتضح بمحاولته إدخالها في علاقة حب معه، وفقاً لتعبيرها.
تقول:”كنت أرفض دائما، لكنه بدلاً من التوقف أصبح يضغط علي، ومع اقتراب الإمتحانات النهائية تمادى أكثر وكان يسمعني كلمات تهديد ومنحني درجة متدنية مع أنني لست سيئة في المادة، وإزاء رفضي المستمر للرضوخ إليه، منحني نهاية السنة درجة 35 من مئة، وتوجب علي المشاركة في امتحانات الدور الثاني”.
تمتلئ عيناها بالدموع وهي تتذكر:”خوفي على مستقبلي جعلني الجأ إليه لطلب مساعدته، لكنه قالها لي بوضوح، بأنه يريد جسدي مقابل درجة النجاح، فشعرت بالإشمئزاز وعبرت له عن رفضي القاطع، فكانت النتيجة أنني رسبت مجددا وخسرت تلك السنة الدراسية لرفضي لرغباته”.
وتتحدث إيناس عن محاولاتها للحصول على المساعدة:”بعد تردد طويل قررت التوجه إلى مدير المدرسة بشكوى. ظننت أنه سيستمع إلي ويساعدني. لكن ما حدث كان عكس ذلك، شكك وماطل، لأنه هو ايضاً كان قد طلب مني الدخول في علاقة حب مع أبن عمه، ولأنني كنت قد رفضت طلبه، قرر أن يتجاهل شكواي” على حد قولها.
نتيجة لتجربتها الصادمة تلك ولأنها لم تجد من يساعدها، فقدت ايناس شغفها بالدراسة: “كنت فقط اريد حقي في التعليم، لأحسن وضعي، لكنهم سلبوه مني، فتركت المدرسة دون رجعة”.
انعكس ذلك على مجمل حياة الفتاة، التي تقول بأنها باتت مطوقة بالعجز “لا يزال قلبي مليئاً بالألم والخوف، أشعر بأنني وحيدة ومغلوبة على أمري. لكنني أردت مشاركة قصتي حتى أكشف ما يحصل من استغلال، ولا يتكرر الأمر مع فتيات أخريات، ينبغي أن يجدن من يقف إلى جانبهن”.
إيناس ليست الإيزيدية الوحيدة التي تعرضت إلى الإبتزاز الجنسي، فهنالك العديد ممن قابلهن فريق التحقيق سواءً في قضاء سنجار أو مخيمات النازحين الإيزيديين بأقليم كردستان، تعرضن لذات الأمر.
وأكدن بأن الأمر شائع بسبب الظروف المعقدة في المخيمات والقضاء الذي لم يستعد أوضاعه الطبيعية منذ سيطرة داعش عليه في 2014 وحتى بعد تحريره، ويعتقدن أن لاخيارات أمامهن، لذا تفضل معظمهن الصمت بسبب الطبيعة المجتمعية المغلقة والخشية من ردود فعل ذويهن ونظرة الناس لهن.
هذا التحقيق، يكشف اللثام عن تفاصيل عدد من تلك القصص المسكوت عنها، ومحاولة معرفة الأسباب التي تكمن وراء حدوثها وما يتوجب القيام به من أجل منع تكرارها.
إقرار ولكن!
فريق التحقيق حصل من إيناس، على رقم هاتف المدرس الذي قام بابتزازها وصور محادثاتها معه عبر تطبيق واتساب، وقابله في مجمع للنازحين قرب دهوك. انقبضت ملامحه عندما تمت مواجهته بالأمر، التوتر بدا على حركة أطرافه، حرك يديه سريعاً وضمهما بإنفعال، ثم أنكر الأمر برمته: “لم أفعل شيئاً خاطئاً، علاقتي بطالباتي دائماً في حدود المهنية”، قال بنبرة صوت متقطعة.
وعندما تم عرض صورة من محادثة أجراها مع إيناس أمامه، تغيرت ملامح وجهه، وفقد أعصابه واخذ يهدد ويتوعد:”إذا نشرتِ هذا الموضوع وذكرت أسمي، سأقاضيك… سأفقد وظيفتي، ستكبر المشكلة كثيراً جداً”.
فريق التحقيق، أصر على معرفة التفاصيل، وأخبره بأنه لن يذكر أسمه بشرط ان يتعاون ويذكر الحقيقة، لكي تنتبه إدارات المدارس لما يحدث.
بعد محاولات عدة، رضخ التدريسي، وأقر بما فعله، وشيئاً فشيء تغير من شخص غاضب إلى آخر يجثم تأنيب الضمير على صدره.
أخرج علبة سكائر، ووضع سيكارة في جانب فمه، ثم قال بعد تردد:”أدرك بأنني ارتكبت خطأً جسيماً بحق الطالبة وبحق وظيفتي. لم يكن من المفترض أن يحدث هذا أبداً”، قال ذلك وعيناه تدوران في محجريهما يميناً ويساراً.
أشعل سيكارته ومج منها نفساً عميقاً قبل أن يطلق الدخان من أنفه وتابع:”أرى الحقيقة بوضوح تام الآن، لا أستطيع سوى أن أطلب المغفرة وأتعهد بأن لا يتكرر هذا أبداً”.
لا ينكر المدرس بأن غياب الرقابة في المدرسة، وشعوره بأن الفتاة وحيدة ويمكن أن تكون فريسة سهلة لنزواته، لعلمه بظروف حياتها الاجتماعية وعدم وجود رجل يمكن أن تستند اليه، هي من بين الأشياء التي جعلته يتمادى معها.
إقراره واعلان شعوره بالندم، لم يكونا كافيين لإقناع ايناس بالعودة إلى مقعد الدراسة، ليصبح سبباً في تغيير مسارها الحياتي، مع أن الباحث الأجتماعي سلوان عزيز، يقول معلقاً على ما تعرضت له ايناس وموقفها، بأنها كانت ربما محظوظة، وقوية برفضها ما أراده منها التدريسي الذي وصفه بالمريض نفسياً.
ويذكر بأن هنالك فتيات غيرها رضخن بالفعل، وكان ذلك سبباً في تدمير حياتهن لاحقاً :”إما وجدن أنفسهم في النهاية أمام فضيحة وقُتلن غسلاً للعار أو أصبحن هدفاً للمجتمع الذي يحاسبهن ولايحاسب من يبتزهن، وقسم منهن أصبحن بنات ليل، ولو سألنا الفتيات في الملاهي الليلية عن ماضيهن سنجد أن معظمهن وقعن بأيدي أشخاص استغلوهن وهن في بداية مشوارهن بالحياة”.
ويستدرك منتقدا طبيعة المجتمع وتمييزه بين الجنسين:”هو لا يتعامل مطلقا مع الفتاة التي تُبتز جنسياً على أنها ضحية، بل على أنها مدانة”.
واقع مسكوت عنه
فريق التحقيق حاول الحصول على احصائيات أو اية أرقام مسجلة لحالات الاستغلال الجنسي من مديريتي التربية الكردية والعربية في قضاء سنجار (إحداهما تابعة لأقليم كردستان والأخرى تابعة للحكومة المركزية في بغداد)، إلا أنه لم يحصل على إجابات رسمية من المسؤولين فيهما بهذا الخصوص.
وظهر من خلال حوارات أجراها مع موظفين فيهما، أن إدارات المدارس لا تقوم بتوثيق الشكاوى التي تصلها بشأن حالات الاستغلال الجنسي، او لا ترفعها إلى مراجعها لتبقى حبيسة أدراج المكاتب، وهذا النقص في التوثيق وإخفاء المعلومات كان التحدي الأبرز لتتبع حالات الاستغلال الجنسي في المدارس بقضاء سنجار والمخيمات.
وتواجه العملية التعليمية في سنجار ومخيمات النزوح البالغ عددها 22 مخيماً، مشاكل عديدة، فهناك مشكلة مزمنة في انقطاع عشرات آلاف الطلاب والطالبات بشكل خاص عن مواصلة الدراسة.
وتظهر إحصائية بشأن أعداد الطلاب العائدين إلى مقاعد الدراسة في سنجار، صادرة عن قسم التربية للدراسة الكردية في نهاية العام الدراسي 2023/2024، عودة ما يقرب من 13,500 طالب وطالبة، وهم من أصل 33,500 طالب وطالبة مسجلاً لمختلف المراحل الأولية والإعدادية، أي بلغت نسبة العائدين 40% في حين ظل نحو 20,000 طالب وطالبة غير قادرين على العودة.
أما الإحصائيات المتعلقة بقسم التربية للدراسة العربية، فتشير إلى أن عدد الطلاب العائدين إلى المدارس قد بلغ نحو 32,000 طالب وطالبة، وهم من أصل 72 ألفاً أي ان العائدين لايشكلون سوى 44% فقط وبقي نحو 40,000 طالب وطالبة بعيدين عن مقاعد الدراسة.
هذا العدد الكبير من المنقطعين عن الدراسة، لا يرتبط بمشكلة النزوح وتداعيات الفقر، أو بعودة آلاف العائلات الى مناطقها السابقة دون ان تجد مدارس قريبة تلتحق بها، بل هنالك ما يتعلق بعدم استقرار البيئة المدرسية وشكوك بجدوى التعليم، الى جانب عدم الشعور بالأمان في المدارس بسبب ما تتعرض له بعض الطالبات من مضايقات أخطرها تلك التي يكون مصدرها الكادر التدريسي.
هذا ما يفصح عنه الباحث الإجتماعي خليل زياد، الذي يؤكد بأن عدم الاستقرار الإداري وتعدد السلطات المسؤولة في سنجار “أفرزت ظواهر سلبية لم تكن موجودة هناك قبل 2014، ومنها ظاهرة التحرش والاستغلال الجنسي للطالبات في المدارس”.
ويعني تعدد السلطات الذي يشير إليه الباحث، نشوء سلطتين محليتين في سنجار بعد تحريرها من داعش سنة 2015، واحدة موالية لإقليم كردستان وهي تدير في الغالب مدارسا التعليم فيها باللغة الكردية، والأخرى للحكومة المركزية في بغداد وتدير مدارساً التعليم فيها باللغة العربية.
الباحث زياد، يقول بأن الطالبات العائدات من رحلة النزوح المليئة بـ”المآسي”على حد وصفه، وقبلها “ما تعرضن اليه هن وذويهم من انتهاكات وجرائم بأيدي عناصر داعش، جعلهن غير واثقات بمحيطهن ويعشن أصلا في قلق إجتماعي وخوف من تكرار التجارب السابقة، وبدلاً من أن تمنح المدارس بعضهن الأمان، أصبحن يشعرن بالخوف والقلق ووقعن تحت ضغط ابتزاز قلة من غير التربويين، كانوا سبباً في تركهن مقاعد الدراسة”.
في مدرسة بقضاء سنجار للدراسة العربية، كانت علياء، التي انهت دراستها فيها سنة 2023، قد واجهت تجربة قاسية مع أحد المدرسين. تقول عن ذلك “لم أكن أتوقع أن يأتي هذا السلوك من أستاذ. كان يلاطفني بكلمات تحمل نية غير نظيفة وكنت أتجنبه دائماً، لكن الأمور تصاعدت عندما طلب مني الدخول في علاقة معه مقابل النجاح في مادته.”
تصمت للحظات وكأنها تفكر بحدود ما يجب ان تسرده في قصتها، قبل ان تتابع:”قال لي بأنني لن أنجح في مادته إلا إذا بادلته مشاعره وصرت عشيقة له، جعلني ذلك أشعر بالعجز، ووقعت تحت ضغط نفسي كبير أثر كثيراً على دراستي”. غير أن مقاومتها لم تستمر طويلاً، حين وقفت أمام خياري، منحه جسدها أو خسارة سنتها.
تضيف بصوت مبحوح:”الخوف وربما وضعي النفسي كانا سبب رضوخي له، فسلمته نفسي”. كان ذلك قبل امتحانات نصف السنة اي في شهر كانون الثاني/ يناير 2023، وكانت تخشى أن لا تنجح ومن ثم تمنع من الدخول الى الامتحانات الوزارية في صيف 2023، كما تقول “فعلت ذلك لكي أنجح، ومن يومها لم أعد أشعر بأنني أنا، فجزء مني قد مات”.
نجحت علياء لكنها تعتقد بأنها خسرت نفسها، وتقول بأنها لم تعد قادرة على النظر إلى نفسها في المرآة “دون أن أتذكر بألم ما فعله بي”.
وتشير، إلى أنها تفصح عن ذلك بعد مرور سنة، لأنها توصلت إلى قناعة مفادها، أن من الضروري على الفتاة أن “تتحدث عما تتعرض له وأن تفضح من يستغلونها”.
وتتابع وهي تشبك أصابع يديها بقوة قبل ان تفردها:”أنا على علم بنحو عشر فتيات أخريات من مدرستي مررن بتجربتي ذاتها، بينهن من رضخن مثلي وأخريات رفضن حتى النهاية، لهذا أريد من أي فتاة تقع بنفس موقفي أن تبلغ إدارة المدرسة أو أهلها قبل فوات الأوان”.
استغلال الثقة والموقع
مدير اعدادية سنوني، في ناحية سنوني التابعة لقضاء سنجار، سيدو الأحمدي، يعبر عن قلقه العميق إزاء ما يصفها بظاهرة “استغلال الثقة” داخل المؤسسات التعليمية. ويقول:”هذه الظاهرة تشكل تهديداً كبيراً على سلامة ورفاهية الطلاب في أي مؤسسة تعليمية كانت، فعندما يستغل فرد ما الثقة الممنوحة له، فإنه لا يؤذي ضحيته فقط، بل يضر نفسه والمجتمع التعليمي ككل”.
ويشير الأحمدي، إلى أهمية التوعية المستمرة داخل المدارس:“يجب أن نركز على تعليم الطلاب حقوقهم وكيفية التعرف على السلوك غير اللائق، من المهم جدا ان يكون لديهم صوت وأن يشعروا بالأمان للإبلاغ عن أي تجاوزات تحصل بحقهم، فالسكوت يعقد المشكلة”.
كما شدد على ضرورة اعتماد سياسات صارمة لمواجهة مثل هذه الحوادث (ويقصد بها الاستغلال الجنسي للطالبات). “لا يمكن التسامح مع أي شكل من أشكال الاستغلال، يجب أن تكون هناك تحقيقات شفافة ومحاسبة فورية للأفراد المتورطين في مثل هذه الأفعال، ومشاركة المجتمع والسلطات المحلية في معالجة هذه القضايا”.
تدريسيٌ من قضاء سنجار، لديه صفة إدارية هي معاون مدير لمدرسة اعدادية، طلب عدم ذكر أسمه، يؤكد انتشار حالات الاستغلال والتحرش الجنسيين بالطالبات في مدارس المنطقة، ويقول:”للأسف، هنالك العديد من الشكاوى التي تلقيناها من طالبات وأولياء الأمور، وبلغ علمنا وقوع حوادث عديدة كذلك”. ويستدرك:”هذه الحوادث بمثابة جرس إنذار على واقع مقلق يتطلب منا اتخاذ خطوات أكثر جدية وحزماً لمواجهة هذا الاستغلال المشين”.
ويقول بأن ادارة مدرسته تشدد على أهمية تجنب الإنتهاكات بحق الطلاب أياً كان شكلها، ويضيف:”كما نعمل على توعية الطلاب والمعلمين على حد سواء. لكنه يعود ليقر:”الحقيقة المؤسفة هي أننا نفتقر إلى إجراءات محددة وصارمة وفعالة للتعامل مع حالات الإستغلال الجنسي، فهناك فجوة كبيرة بين ما يفترض أن يكون عليه الوضع في مدارس الفتيات وما يحدث فعلياً على أرض الواقع.”
ويعتقد معاون المدير، بأن الوضع الراهن يتطلب “استجابة أكثر قوة من السلطات التعليمية”. ويوضح:”يجب أن نتحرك سريعا لتوفير بيئة تعليمية آمنة”.
وينبه الى انه من دون تلك الإجراءات ستستمر الإنتهاكات و”ستظل ثقة الطلاب وأولياء الأمور بالنظام التعليمي مهزوزة”، داعياً كذلك إلى العمل على تحسين التواصل بين المدارس والجهات المعنية، والتعاون مع السلطات المحلية والمجتمع.
هل الطالبات مذنبات ؟
عاصي، معلم ابتدائية في مدرسة بناحية سنوني، يرى أن المشكلة قد تكون أكثر تعقيداً مما تبدو عليه في الظاهر ولها جوانب أخرى، ويقول: “نعم، نحن جميعنا ضد هذه الأفعال المشينة، لكن ينبغي أن نكون واقعيين ونقر بأن هناك جانباً آخر لهذه القصة. بعض الطالبات، للأسف، يحاولن التقرب من المعلمين بأساليب معينة”.
ويوضح:”قد تتضمن إعطاء إيحاءات للمعلمين بهدف كسب رضاهم أو تعاطفهم، فبعضهن يسعين للحصول على درجات أفضل أو مساعدة إضافية من خلال التقرب من التدريسيين، هذا السلوك يمكن أن يخلق مواقف معقدة ويؤدي إلى سوء فهم أو استغلال من قبل بعض الكوادر التعليمية”.
وعلى الرغم من اقرار المعلم عاصي، بأن ذلك ليس مبرراً لقيام المعلمين والمدرسين باستغلال الطالبات أو التحرش بهن جنسياً، إلا أنه يصر على ضرورة توجيه جهود التوعية نحو جميع الأطراف بلا استثناء:”علينا أن نكون حذرين في كيفية تعاملنا مع هذه القضايا، التعليم والتوعية يجب أن يكونا موجهين للجميع – الطلاب والمعلمين على حد سواء – لضمان تحييد هذه السلوكيات غير اللائقة”.
ويضيف إلى ذلك:”يفترض أن يكون هنالك نقاش بشأن هذا الموضوع بين جميع الأطراف المعنية، وعدم تجاهله، وعلى المعلمين أن يكونوا على دراية بكيفية التعامل مع مثل هذه المواقف بحكمة ومهنية، وأن يعرف الطلاب حدود السلوك المقبول في إطار العلاقات التعليمية”.
ولا يتفق الباحث والكاتب سلوان عبد العزيز، مع ما ذهب إليه المعلم عاصي، بتحميل بعض الفتيات مسؤولية مايجري ضدهن من ممارسات غير أخلاقية، ويقول:”نحن نتحدث هنا عن فتيات قاصرات، والمعلمون والمدرسون هم بمثابة الآباء والأشقاء الأكبر، وحتى لو مالت الفتاة إلى معلمها بسبب حداثة سنها وعدم نضجها ووقوعها تحت تأثير المراهقة، فهذا ليس مبرراً للمعلم أو المدرس ليستغل ذلك، إنها جريمة يجب أن يلقى بسببها في السجن ويطرد من وظيفته بنحو نهائي”.
ويجد أن الحل الأقرب للمشكلة يكمن في اعتماد كوادر تعليمية نسوية لتعليم البنات، داعيا وزارة التربية الى المساعدة في ذلك من خلال تعيين معلمات ومدرسات للمدارس، حتى وإن كانت “المدارس مختلطة”.
تأثير نفسي
الباحث الاجتماعي إلياس بركات، يرى بأن الاستغلال والتحرش الجنسيين لايقتصر تأثيرهما على الأذى الفوري للضحية:”بل يؤدي إلى تآكل الثقة بين الطالبات وأولياء الأمور من جهة والمؤسسات التعليمية من جهة ثانية، إذ يفقدن الشعور بالأمان في البيئة التعليمية، بما يدفع لترك دراستهن، ويمكن أن يمتد هذا التأثير إلى حياتهم العامة، مما يعزز مشاعر العزلة والخوف ويؤثر سلباً على قدرتهن على بناء علاقات صحية.”
ويشدد بركات، على أهمية “تعزيز برامج التوعية بحقوق الطلاب وسلوكيات التفاعل الآمنة، وضرورة تطبيق سياسات صارمة لمواجهة مثل هذه الانتهاكات”، كما يشير إلى أن “توفير الدعم النفسي للضحايا أمر أساسي لضمان تعافيهن ومساعدتهن على المضي قدماً”.
ويجد أن السبب في ظهور سلوكيات الاستغلال الجنسي المنحرفة كما يصفها، هو“غياب الرقابة الفعالة داخل المدارس وخارجها، وهذا يسمح بحدوث هذه الأفعال دون ردع فوري.”
ويضيف: “التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي سهلت الاتصال بين الطلاب والمعلمين خارج أوقات الدوام المدرسي. هذه الأدوات رغم فوائدها، يمكن أن تكون منصات سهلة للاستغلال إذا لم تُستخدم بحذر.”
كما أتهم بعض العائلات بالتقصير في متابعة بناتهن “وتوجيههن نحو السلوكيات الصحيحة”.، ويوضح:”العائلات التي لا تقدم نصائح كافية بشأن كيفية التعامل مع الآخرين داخل المدرسة وخارجها قد يجعل أطفالهن عرضة للاستغلال.”
فريق التحقيق، وخلال تقصيه عن المشكلة وحجمها في عدد من المدارس، لاحظ ان العديد من العائلات قامت بنقل بناتهن من مدرسة إلى أخرى، بسبب استيائها من سلوكيات وجدوها غير جائزة من قبل بعض المدرسين والمحاضرين. وحدث ذلك أيضاً في بعض مخيمات النازحين، لكن أياً من تلك العائلات لم تقدم شكاوى، خوفاً من الفضيحة والوصمة المجتمعية.
آثار نفسية للإستغلال الجنسي
المعالج النفسي الحاصل على درجة الماجستير في علم النفس، ناجي حجي، يقول ان “الاستغلال الجنسي والعنف الممارس في المدارس يندرج تحت فئة العنف القائم على النوع الاجتماعي، إذ يوجد طرف قوي وآخر ضعيف، ويتم إساءة استخدام السلطة من قبل الطرف الأقوى. هذا الاستغلال قد يحدث بين أفراد من نفس المستوى أيضاً، سواء عن طريق الإيحاءات اللفظية أو عبر الصور والرسائل.”
ويشير إلى أن الضحية تعيش صراعاً داخلياً، يتأرجح بين الميل إلى الرضوخ لضغط المعتدي أو مواجهة آثار سلبية محتملة من قبل الطرف الآخر القوي. ويضيف: “حتى إذا كانت الضحية لا تمتلك ميولا تجاه الطرف الآخر، فهي قد تجد نفسها تفكر في تأثير الرفض وما قد يترتب عليه من تداعيات”.
ويذكر بأن الأعراض النفسية التي قد تظهر على الضحايا تشمل الاكتئاب، العزلة الاجتماعية، التفكير الزائد، والتساؤل المستمر عن سبب اختيارهم كضحايا، مثل: “لماذا اختارني بالذات؟ هل يراني شخصاً ضعيفاً وسهل الوصول إليه؟ هل هو صادق فيما يقوله؟”
ويعني المعالج النفسي بذلك، أن صراعاً نفسياً داخلياً تعيشه الضحية، ويستدرك:”ينجم عن كل ذلك في العادة، سلوكيات غريبة مثل خوف الضحية من أبسط الأشياء”. وينبه إلى أن الأضرار النفسية الناتجة عن الاستغلال الجنسي قد تكون “جسيمة للغاية”، إذ تعاني الضحية من شعور بالخيانة والخوف الذي قد يتطور إلى اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب.
كما يشير إلى أن الضرر النفسي لا يقتصر فقط على الضحية نفسها، بل قد يمتد أيضا ليشمل زميلاتها وأسرهن، “انتشار قصص الاستغلال قد يثير حالة من الذعر بين الطالبات، ويجعل بعضهن يشعرن بأنهن مهددات باستمرار، مما قد يدفع البعض إلى ترك المدرسة خوفاً.”
ويحذر حجي، من أن يصل اليأس بالضحية إلى حد التفكير بالانتحار “وأحياناً قد يقدمون عليه، لذلك لابد من توفير العلاج النفسي والدعم اللازم للطالبات المتضررات لضمان سلامتهن النفسية والجسدية”.
ويشدد، على أهمية عدم مواجهة الضحايا لهذه المواقف بمفردهن “الحل الأمثل هو التحدث إلى أشخاص قريبين أو اللجوء إلى مختصين نفسيين للحصول على الدعم اللازم. التكتم على الأمر ليس حلاً، بل قد يزيد من تعقيد الوضع”. وينصح الضحايا في النهاية بضرورة توثيق الأدلة مثل الرسائل أو الصور أو الصوتيات لاستخدامها قانونياً ضد المتحرشين.
اطلع فريق التحقيق على العديد من قصص الاستغلال في المدارس، بعض الضحايا فيها كانت طالبات بعمر صغير، لا معرفة لهن بكيفية مواجهة هكذا مواقف صادمة.
كان الهاتف الجوال يرتعش بين يدي زهراء، على الرغم من محاولتها إظهار تماسكها وهي تروي ماحدث لزميلتها وصديقتها المقربة (جوان) في مدرستهما بناحية سنوني، وبدا أنها لم تتخلص من صدمة ما حدث لها، على الرغم من مرور عدة سنوات.
تقول بنبرة خافتة وعينها على الأرض:”مدير المدرسة الأستاذ….. كان يبدو على الدوام مهتماً بجوان، يتحدث معها بلطف ويقدم لها نصائح دراسية، لكن شيئاً ما لم يكن مريحاً في نظراته وكلماته”.
تصمت زهراء للحظات، ثم تواصل بتردد: “هي كانت تحاول تجنبه، لكنها لم تنجح، فقد كان يصر على التواصل معها وطلب منها أخيرا الجنس مقابل نجاحها في كل المواد، كان يلح عليها برسائل هاتفية، يعدها بالحب والنجاح تارة، ويهددها تارة أخرى”.
تضم يديها إلى صدرها وتضيف بنبرة هادئة:”جوان كانت يتيمة الأب، ولأنها ما زالت صغيرة في الصف الرابع الاعدادي كان سهلا استغلالها والتلاعب بمشاعرها”.
وتروي كيف أن مدير المدرسة، طلب لقاء جوان خارج أسوار المدرسة، حيث استدرجها إلى أطراف قرية قريبة:”كنت برفقتها يومها، وأعرف جيداً بأنها لم تكن راضية، وأنها تعرضت للإستغلال”.
طلب المدير من جوان أن تركب السيارة إلى جواره، ولم يكن يعرف بأن هنالك شخصاً يصور كل شيء بهاتفه الجوال من بعيد. تحتشد الدموع في عيني زهراء وهي تقول:”انتشر مقطع الفيديو بسرعة على وسائل التواصل الاجتماعي. رأيناه جميعاً، كان كابوسا حقيقيا. صديقتي كانت ضحية، لكن الناس لم يروا ذلك. وأخذوا يتحدثون عنها بسوء”.
تأخذ نفساً عميقاً، تضع يدها على جبهتها وتذكر بأن ذلك لم يكن أسوء شيء حدث:”العشائر تدخلت، ولم يكن لديها سوى الحل الذي جاء لصالح المدير بدلاً من معاقبته، إذ فرض عليه الزواج بجوان، مع أنه متزوج بالفعل، ويكبرها بـ 22 سنة!”. وتستدرك:”لقد أجبروها على العيش مع الشخص الذي أساء لها، بدلاً من أن يدخلوه السجن”.
فريق التحقيق، تواصل مع مديرية التربية التي تتبع إليها مدرسة المدير، وعلم أنها اكتفت بتغيير وظيفته من مدير مدرسة، الى موظف فيها، مع عقوبة قطع راتب لشهر واحد فقط، دون اتخاذ أي إجراء تأديبي آخر.
القانون وضحايا الاستغلال في المدارس
المحامية والناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة سوزان شنكالي، من سنجار، تؤكد عدم وجود تعريف صريح للتحرش في نصوص القانون العراقي “لم يتناوله المشرّع العراقي لا باللفظ ولا بالتحديد”.
وتستدرك:”غير أن قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 أدرج هذا الفعل ضمن الجرائم المخلة بالأخلاق والآداب العامة، في الباب التاسع، الفصل الثالث، حيث نصت المادة 400 على أن من يرتكب فعلاً مخلاً بالحياء ضد أي شخص، سواء كان ذكراً أو أنثى، دون رضاهم، يعاقب بالحبس لمدة لا تزيد عن سنة أو بغرامة لا تتجاوز مائة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين. وفي إقليم كردستان، تصل الغرامة إلى 225 ألف دينار”.
وتشير المحامية الى مواد قانونية أخرى مثل المادة 402 التي تجرم التحرش الجنسي وتفرض عقوبات تصل إلى الحبس، وكذلك المادة 430 المتعلقة بالابتزاز، والتي تعاقب بالسجن كل من يبتز شخصاً آخر لتحقيق مكاسب غير مشروعة.
وتقول بأن المحكمة تتمتع بسلطة تقديرية في تكييف الفعل وفقاً للظروف المحيطة بالجريمة، ومدى جسامة الفعل، وما هو متعارف عليه في المجتمع والعادات السائدة في البيئة التي وقعت فيها الجريمة.
لذا فأن فعل التحرش يعد كما تؤكد المحامية سوزان، جريمة يعاقب عليها القانون، ودعت إلى التعامل معه بنحو جاد وصارم في نفس الوقت، منبهة الى ان التحرش اليوم “أخذ أشكالاً متعددة، يهدد الفتيات والأطفال بشكل خاص. فهناك التحرش اللفظي، الملامسة الجسدية، إضافة إلى التحرش الإلكتروني عبر التعليقات أو الصور أو الرسائل الصوتية وغيرها من الوسائل. جميع هذه التصرفات تعد جرائم يجب محاربتها بالوعي القانوني للمجتمع وتوفير الحماية اللازمة لأفراد الأسرة”.
وترى، ضرورة توعية الأفراد بحقوقهم وكيفية حماية أنفسهم، وأن يتم تشجيع ضحايا التحرش على اللجوء إلى القضاء من خلال الوالدين أو الأزواج لضمان معاقبة الجاني. وتضيف:”التوعية يجب أن تشمل أيضاً المعلمين والمدرسين وأن يدركوا بوضوح وجود قوانين صارمة تعاقب على الاستغلال والتحرش. الوعي بوجود مثل هذه القوانين يمكن أن يكون رادعاً قوياً ويعزز من السلوكيات المهنية داخل المدارس”.
المسؤول عن وحدة الشرطة المجتمعية في سنجار، المفوض دخيل، يؤكد بأنهم يتلقون بانتظام اخباراً عن حالات استغلال جنسي تقع في المدارس “لكن قليلين يقدمون شكاوى بنحو مباشر”. ويوضح:”نحن نتلقى تقاريرا وابلاغات عن حالات استغلال وابتزاز في مختلف المستويات، لكن قلما تأتينا حالات ابلاغ عن الاستغلال في المدارس لأسباب اجتماعية أو لعدم معرفة الناس بالآليات وطريقة الابلاغ”.
ويضيف:”نحن في الشرطة المجتمعية مستعدون دائماً للوقوف إلى جانب الضحايا وتقديم الدعم اللازم. ونحث الطالبات اللواتي يعانين من أي شكل من أشكال الاستغلال على التواصل معنا فوراً. يمكنهن الاتصال بنا عبر الخط الساخن للشرطة المجتمعية، أو زيارتنا في مركزنا للحصول على المساعدة”.
ويؤكد دخيل:”نحن ملتزمون بتنظيم جلسات توعية في المدارس لتعريف الطلاب بحقوقهم وكيفية التصرف في حالات الاستغلال. سنعمل على وضع تعليمات واضحة داخل المدارس لضمان أن يعرف الجميع حقوقهم وكيفية الإبلاغ عن أي تجاوزات”.
واختتم كلامه بإشارته إلى أن التعاون بين الشرطة المجتمعية والمدارس وأولياء الأمور هو المفتاح لتوفير بيئة تعليمية آمنة للجميع “نحن هنا لحماية الطلاب ودعمهم، وسنبذل كل جهد ممكن للحد من هذه الظاهرة”.
ويوجه كلامه للطالبات واولياء الأمور في سنجار، بأن الخط الساخن للشرطة المجتمعية هو (497)، ومتاح على الدوام، والموظفون سيكونون على الجانب الآخر لتلقي الاتصالات والابلاغات على مدى 24 ساعة في اليوم.
دور المجتمع
أبو الياس(60 سنة) من مجمع خانصور، التابع لسنجار، عضو في لجنة أولياء أمور الطلاب في المنطقة، يؤكد أهمية عقد اجتماعات دورية بين أولياء الأمور والمدارس لمناقشة كل مشاكل الطلاب بما فيها الحساسة كالتحرش بالطالبات. ويعبر عن أسفه لعدم انتظام هذه الاجتماعات في معظم المدارس.
ويشير إلى أن القضايا المتعلقة بالسلوكيات غير اللائقة نادرا ما تُدرج في جداول الأعمال. ويطالب بضرورة تعزيز هذه الاجتماعات وجعلها شهرية، لكي يتمكن أولياء الأمور من الحديث بنحو مباشر مع المسؤولين في المدرسة واتخاذ إجراءات وقائية فعالة.
فريق التحقيق، أجرى لقاءً مع حسن صالح، مدير تربية سنجار للدراسة العربية، بخصوص وقوع حالات للإستغلال الجنسي في المدارس، فقال بأنه علم بوقوع حالتين لكن:”لم نتلقَ أي شكوى رسمية من الطلاب أو أولياء الأمور، المدرسين، أو من الكادر النسائي لدينا. أبوابنا مفتوحة للجميع للإبلاغ أو تقديم معلومات بشأن هذه القضايا”.
ويضيف “نعقد اجتماعات دورية مع مدراء المدارس، ونحث على الرقابة الفعالة، وعند ثبوت حالة تحرش أو استغلال من أي نوع يتم التعامل معها من خلال اللجنة القانونية، ونقوم باستدعاء الأطراف المعنية بشكل سري للتحقق من صحة الادعاءات. وفي حال ثبوت الحالة، يتم رفع كتاب العقوبة، ويتم اتخاذ الإجراءات بحق المدرس أو المعلم وفقا لدرجة جسامة الفعل. العقوبات قد تشمل الفصل، النقل إلى مدرسة أخرى، أو توجيه توبيخ”.
ويضرب مدير التربية للدراسة العربية، مثالاً على ذلك:”كانت لدينا حالة في تربية القيروان، إذ عوقب المدرس المتورط بالتوبيخ والنقل إلى مدرسة أخرى، كان هذا المدرس تابعا للدراسة العربية، لكنه لم يكن خاضعا لإدارتنا”.
تتساءل احدى الضحايا، معلقة على العقوبات الصادرة: “أمام تلك الجريمة الكبيرة، ومع كل ما يترتب عليها من آلام وخسائر، يكتفون بالنقل، وفي الغالب يفضلون تجاهل الأمر وتسويته، لذلك لن تجد الا القليلات يرفعن شكاوى أو صوتهن عاليا لكشف حقيقة ما تعرضن له.. يفضلن العيش بصمت مع صدمات ستلاحقهن الى الأبد”.
ملاحظة: تم اخفاء أسماء بعض المتحدثات والمتحدثين والمواقع بطلب من أصحابها. أنجز التحقيق بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية ضمن مشروع “الصحافة الاستقصائية للكشف والمتابعة”.