
ايزيدي ٢٤ – مثنى النهار
في أحد أزقة الموصل القديمة، حيث تروي الجدران حكايات الألم، وتُشير التهدّمات إلى قسوة الأيام، وُلد حلمٌ صغير في قلب فتاة تُدعى “ميرنا”. لم تكن طفولتها عادية؛ إذ عاشت محاطة بالخوف والموسيقى في آنٍ معًا.
في بيت بسيط تسكنه روح الفن، تربّت ميرنا على حب الأصوات والنغمات، إرثًا عن جدّها النحّات والفنان فوزي إسماعيل، الذي جعل من الفن قصة تتردد في كل زاوية من زوايا المنزل.
من مرارة الحصار إلى ضوء الكاميرا
“كنت أحب أجواء التصفيق، وتصوير الجمهور، وأغني وحدي”، تقول ميرنا وهي تستذكر بداياتها. خلال سنوات سيطرة داعش على الموصل، وبين جدران بيتها، بدأت توثّق لحظاتها بكاميرا هاتفها ومعدات بسيطة، أبرزها “فرشاة شعر” استخدمتها كميكروفون! ومع كل ذلك، تمسكت بشغفها، رغم العتمة.
عندما تنفست الموصل الحرية من جديد عام 2017، استمعت لنصيحة أحد الأصدقاء وقدّمت طلبًا للعمل في قناة “الموصلية”. لم تملك شهادة في الإعلام، ولا خبرة مهنية، لكنها امتلكت الشغف والحضور، فرحّبت بها القناة، ومن هناك بدأت الرحلة.
من الإعلام إلى الغناء.. قلبان في جسد واحد
أحبت ميرنا العمل الإعلامي ونجحت فيه، حيث قدمت برامج إذاعية وتلفزيونية، وعملت مراسلة تنقل صوت مدينتها. ومع ذلك، ظل قلبها معلقًا بالنغم. وبعد أن رسّخت خطواتها في الإعلام، قررت منح شغفها الآخر فرصته، فالتحقت بمعهد الفنون الجميلة – قسم الموسيقى، لتبدأ فصلاً جديدًا في مسيرتها.
عبر مشاركتها في “منظمات المجتمع المدني” وفرقة “قليتا”، وقفت ميرنا لأول مرة تغني أمام جمهور حقيقي. تعلّمت العزف على آلة البَغلَما، وحاليًا تتقن العزف على العود كتخصص أكاديمي.
المرأة التي تقف خلف النجاح
بكثير من الامتنان، تقول ميرنا: “أمي”. تلك المرأة التي آمنت بها في وقت شكّك فيه الآخرون، وساندتها حين خانتها الظروف. كانت الأم السند، الرفيقة، والملهمة.
ورغم هذا الدعم، لم تخلُ رحلتها من المحبطين، أولئك الذين يصدرون أحكامهم على الأحلام قبل أن تولد. لكنها تعلّمت أن تصمّ أذنيها عنهم، وتقول بثقة: “تعلمت ما أسمع لهم، وأمشي ورا طموحي، لأن ماكو أحد يعرف شنو بقلبي غيري”.
بين نظرة المجتمع ودعم العائلة
لم يكن الطريق سهلاً. الفتاة التي تظهر على الشاشات وتغني ما زالت مثار جدل في بعض الأوساط. لكن عائلتها، التي كانت تخشى عليها في البداية، تحوّلت إلى أول المصفقين لها، بعد أن شاهدوا التزامها وجديتها.
“اليوم، أهلي كلهم يشجعوني”، تقولها بفخر، مضيفة أن نظرة المجتمع بدأت تتغيّر، وأصبح الطموح يُقابل بالاحترام لا بالريبة.
ميرنا بعيون من عرفها
زميلتها في الفرقة، آمنة، تقول: “ميرنا وجودها ويانا غير. صوتها، طاقتها، ضحكتها، كلشي مختلف. تعرف توازن بين الجد والونسة، وإذا غابت نحس شي ناقص”. شهادات مثل هذه لا تُمنح بسهولة، لكنها تعبّر عن الأثر الإنساني والفني الذي تتركه ميرنا في محيطها.
أحلام لا حدود لها
ميرنا، ذات الـ22 عامًا، تدرس حاليًا في المرحلة الثالثة بمعهد الفنون الجميلة. تطمح لإطلاق برنامج عالمي يخدم المواهب، لا سيما الفتيات، عبر ورش ودورات مجانية تدعم تطوير الذات. وتحلم أن تكون صوتًا يصل إلى كل من يحتاج الدعم… فالغناء بالنسبة لها ليس مجرد طرب، بل رسالة.
في مدينة اعتادت الصمت تحت النار، اختارت ميرنا أن تكون صوتًا. وفي مجتمع يقف أحيانًا ضد الحلم، كانت استثناءً. ميرنا ليست مجرد فتاة تغني، بل قصة نهوض من بين ركام الدمار، نحو الضوء… من الموصل إلى العالم.
يقول الموسيقار فاضل البدري عن تجربتها: “إنها بادرة جميلة وإيجابية، فبعد فتور دام أكثر من 20 عامًا، نرى اليوم فتيات من الموصل يدخلن مجال الموسيقى والغناء. وهذا بحد ذاته تطور حضاري، حتى وإن كان الفن الذي يقدمنه بسيطًا، فالأهم هو وجود العنصر النسائي، خصوصًا وأن الموصل كانت محافظة ملتزمة دينيًا”.