بنات سنجار يحكين ” لقاء الأرواح” القصة الثامنة

حليمة شنكالي
كانت “ڤین” تستمع إلى خطيبها “وار” بصمت وهو يتحدث بهمس إليها: – سأبني لك قصرًا رائعًا، سياجه من الذهب الخالص، تنتشر فيه مصابيح من الماس الأزرق والياقوت الأحمر، وأرضيته مغطاة بأجمل وأفخر أنواع البورسلين في العالم؛ البورسلين البرتغالي الفيروزي والبورسلين الإسباني الأزرق الداكن. ستصنع لك الملائكة فستانًا أبيض، وسأحملك على ذراعي ونطير لنرى قارات العالم السبع ومحيطاته الخمسة. أخذت ڤين تضحك بصوتٍ عالٍ جدًا، مما أيقظ أمها من النوم لتسألها باستغراب: – ڤین ڤین.. لماذا تضحكين؟ هل أنتِ صاحية أم تحلمين؟ – لا شيء يا أمي العزيزة. قالتها بحنان بالغ وهي تضع سبابتها على شفتيها مشيرة إلى حبيبها “وار” بالصمت، ثم وضعت رأسها على صدره وانهمرت دموعها، فقد أصبح عمرها ستة وثلاثين عامًا بحلول هذا العام الجديد، عام 2024، وأمها مريضة، وهي كل ما تبقى لها من أهلها بعد هجوم داعش الإرهابي على سنجار. أخذت تهمس لوار بصوت عذب: – وار، ابقَ معي إلى الأبد، لا تذهب فجأةً وتغيب. كان الظلام حالكًا في كل المخيم عندما سمعا كلاهما منادٍ ينادي من بعيد: – ڤين .. وار.. ڤين.. وار حمل وار حبيبته فين على ذراعيه وهرع إلى خارج المخيم، أوقفها بجانبه، وتبين تحت أنوار الكون قوامهما الرشيق وجمالهما بالزي الإيزيدي الأبيض، وهما يقفان مندهشين في فضاء ضبابي لا متناهٍ، يدور أمام أنظارهما كوكب الأرض. بدا فيه جسر معلق يربط القارات السبع والمحيطات الخمسة. يحيط الجسر سياجٌ من الذهب الخالص، تتدلى منه مصابيح من الماس الأزرق والياقوت الأحمر. تنبثق الأنوار من بلاطه المشيد من البورسلين البرتغالي الفيروزي والبورسلين الإسباني الأزرق الداكن. نظرت ڤين إلى وار تسأله: – هل أنت المنتج لهذا المشهد؟! – لا. لكن الأفكار والمعلومات تتبادل عبر الكون، ألم يتعلم القاضي شلو معزوفته من الجن ؟! أومأت برأسها علامةً للموافقة، واستمرّا في متابعة المشهد.
عند خط التقاء المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي (البرزخ)، ظهرت المياه من جهة باللون الفيروزي ومن الجهة الأخرى باللون الأزرق الداكن، وامتدت مائدة طعام ممتلئة بالأطباق الفاخرة من الذهب والفضة والكريستال، فيها كل ما لذ وطاب في العالم. وقف حول مائدة الطعام عشرات المليونيرات والمليارديرات في العالم، المتاجرين بنشر الأحقاد بين البشر باسم الوطن والقومية والدين والمذهب. يرتدون البدلات وربطات العنق، ومنهم من يرتدي ملابس شعبية، وآخرون يرتدون ملابس دينية. ظهرت بين الصفوف أيضًا النساء الثريات التابعات لهذا وذاك من الرجال، وكأنهن عارضات للأزياء والذهب والمجوهرات. امتدت الأيدي في توقيت واحد لتناول الأطباق واختيار الطعام.
بلمح البصر، تحولت المأكولات المعروضة إلى رؤوس بشرية لرجال ونساء وأطفال، بألوان مختلفة من البشرة والشعر والملامح. منها وجوه حية تعكس ملامحها الجهل والمرض وبؤس الحال، ومنها لنساء وأطفال المجاعات، ومنها وجوه ميتة، دامية، مجروحة، مشوهة ومحروقة، وهم ضحايا العنف والنزاعات المعاصرة. تغيرت ملامح الجماعات الواقفة لتناول الطعام وارتجفت أجسادهم، وغطى الخوف والفزع ملامحهم، ولكنهم كانوا غير قادرين على القيام بأي حركة. ثم تلاشوا وكأنهم لم يكونوا. فجأة، حلقت الرؤوس البشرية وطارت من على مائدة الطعام وهبطت في مناطق سكناها الحقيقية على كوكب الأرض، واكتملت فورًا أجسامها وظهروا بأجمل الملابس وأفضل حال، يلوحون بأيديهم مبتسمين لبعضهم البعض وهم يطلون من نوافذ مرقمة إلى رقم (193) والذي يمثل دول العالم. ارتفعت أمواج مياه المحيطين على جانبي الجسر عاليًا فوق الجسر، وبدا اللونان الفيروزي والأزرق الداكن يرقصان متعانقين رقصة تُجسد تقبل الآخر بكل اختلافاته. فجأةً رأت ڤين نافذة غير مرقمة يطل منها وجه حبيبها وار، فالتفتت إليه تقول بدهشة: – انظر! انظر، هذا أنت تطل من النافذة! ولكن وار لم يكن موجودًا. فالتفتت إلى المشهد، ولكن المشهد كان قد انتهى. عندها تذكرت ڤين أن عصابات داعش في اليوم الأول من هجومهم على مدينة سنجار عام 2014، ذبحت حبيبها وار، وقطعت رأسه لأنه قاومهم، وقتلت إخوانه الصغار ووالديه رميًا بوابل من الرصاص! ورغم كل الألم والعذاب، قالت ڤين: – لا يوجد برزخ يمنع الاتصال بين عالمي وعالم وار، يمنع تواصل عالم الأحياء وعالم الأموات. ستبقى روحي تعيش مع روح وار إلى الأبد، وعاجلًا أم آجلًا لن يكون البرزخ عائقًا لانتشار الحب وتقبل الآخر بين البشر.