بنات سنجار يحكين ، القصة السادسة (من داعش الى المخيمات)

حليمة شنكالي
هل تعرفون من أنا؟! أنا من مدينة سنجار. هل سبق لكم أن سمعتم بها؟! إنها مدينة التين والزيتون، اللذين بمذاقهما تشعر بشيء يدخل روحك ويلامس قلبك، فتشعر بحلاوة الحياة وتسكر وما أنت بسكران! أنا من مدينة سنجار التي تنتج تبغاً يهمس لك: لفّني برفق بأصابعك بورق السيجار الرقيق مثل رقة أوراقي، ولأكون بين أناملك سيجارة. أشعلني وخذ مني أنفاساً يتراقص معها ارتفاع دخاني دوائر دوائر، فتتصاعد روحك أنت مع دوائر الدخان، وبحضنك من تحب حيث الله والسماء. ترافقك الموسيقى من الطنبور السنجاري المصنوع باليد من شجرة عتيقة عاجنة لسحر الكون وخابزته. أنا التي كنت أقرأ الروايات باللغة العربية، وكنت على أعتاب دخول الجامعة، وأحلم بدخول كلية الآداب قسم اللغة الكردية، لأترجم فيما بعد أكبر عدد ممكن من الروايات العالمية من لغتها إلى لغتي الكردية الفقيرة مما كتبه الأدباء العظماء في العالم.
أنا التي كنت أعشق في الخيال حبيباً واحداً، ليكن الرجل الأول والأخير في حياتي، وهو الذي في كل لحظة يعيش في روحي ودمي، وأسرد له كل شيء عبر الكون طوال يقظتي وأسند رأسي على كتفيه إن أردت أن أنام فيغفو هو في عيني وأنام أنا على كتفيه! أنا التي في ليلة ظلماء جاء سيف قاسٍ وظالم وقطع سلسلة أحلامي وأخذني منها ومن أهلي وأحبابي، ولم أُقتل لسبب واحد فقط وهو أن يستمتع أنذال داعش بجسدي. أنا التي من سنجار، المدينة التي تقدس الحب وتسمح للحبيب أن يخطف حبيبته بأدب جم، نعم، بأدب جم حيث لا يفر بها، بل يذهب معها إلى أعرق بيوت المدينة ويقول كلمته بأن “هذه هي التي أحب أن تكون شريكة عمري ورفيقة دربي.” فيبارك الرجل القدير الطيب صاحب البيت ويعلن الزواج الذي باركه الله والكون من قبل، حيث حرية الاختيار والزواج المبني على الحب! آه! في ليلة ظلماء تبددت تلك الحياة الطيبة الجميلة. لقد تعرفتم الآن على بطلة القصة هذه، إنها “نرمين”، الشابة المختطفة، والتي تجلس الآن في صالة البيت أو السجن الذي لا تعرف أين يقع. تجلس على كرسي مخصص لها في الصالة، ويقع في ركن بعيد عن مكان جلوس النساء الداعشيات المتقاربات في جلوسهن من بعضهن البعض على الأريكة، فهن يحرمن التقرب من نرمين لأنها كافرة.
كانت نرمين ترتدي عباءة سوداء وشعرها المجعد الأسود ينسدل على كتفيها. تنظر إليهن فتعرف أنهن قد تبدلن رغم العباءات والحجاب والنقاب الذي يغطيهن تماماً، تعرف أنهن تبدلن من هيئة أجسادهن وعيونهن الظاهرة من شق عرضي، ولكن لغة الجسد ونظرات العيون كانت نفسها تماماً، حيث يطفح الحقد والاشمئزاز تجاهها هي! خاطبتها إحداهن قائلة بحزم: – اسمعي يا هاجر. – فأجابت بصوت عالٍ وواضح: – اسمي نرمين. – اسكتي، لقد بلغنا بعدم ضربك لكون “أبو سيف” سيعود. – سأذهب لأرى الطفلة إن حليبي يتساقط. – اسكتي واسمعي! – عليك أن تشكري الله لأنك أصبحتِ جاريةً للأمير أبو سيف الذي تتمناه كل نساء الأرض بدلاً من أن تموتي وأنتِ كافرة فتدخلين جهنم. بدأت نرمين برفع صوتها أكثر وهي تقول: – لقد سمعت كل ما تريدون قوله الآن، كفى، كفى! – حقاً، أنتِ وقحة وشرسة، وأكثر مما وصفوكِ لنا. – لولا وصية الأمير لكسرت عظامكِ بالجلد. كانت الثلاث يتناوبن في الكلام الموجه إليها، الواحدة تلو الأخرى: – واجبنا نحن المجاهدات إلقاء الدروس عليكِ علّكِ تهتدين. – لم يكن المقصود من غزو سنجار هو سبيكِ وسبي البنات الإيزيديات، هذه الأمور تترتب بعد كل غزوة، والخير هو في سبي البنات بدلاً من قتلهن وهن كافرات فيدخلن نار جهنم. – جهنم! جهنم! كفاكم التحدث معي عن جهنم! قالتها وهي تنتف شعرها وتصرخ، وكفت عن الصراخ وهي تسمع طفلتها تبكي، فهرعت لدخول الغرفة الصغيرة التي تسكنها. – إلى الجحيم، يا كافرة! قالتها النساء معاً. في اليوم الثاني ظهراً، طُرق باب الغرفة كالمعتاد، فوجدت حصتها من الطعام أمام الباب في أوانٍ سفرية. منذ ولادة ابنتها وهي تحاول أن تأكل أكثر لترضع الطفلة أكثر. فتحت الباب وتناولت الأواني من على الأرض وعادت لتدخل الغرفة التي تستنكف النساء من الدخول إليها. قضت على صحن الأرز والفاصوليا والصمونة، وشربت قنينة الماء، ثم عادت لتضع الأواني في كيس من النايلون. نهضت وفتحت الباب لتضع الكيس خارج الغرفة، فوقع بصرها على النساء وهن شبه عاريات بملابس النوم. أغلقت الباب بسرعة وعادت لتأخذ ابنتها بين أحضانها. في نفس اليوم ليلاً، فتح الداعشي “أبو سيف” الباب وقال فوراً آمراً: – السلام على من اتبع الهدى. تفهم الشابة نرمين، المنتمية إلى ديانة عشاق الشمس، معنى مثل هذا السلام عند داعش. فقد تلقت خلال ما يقارب ثلاث سنوات منذ وصولها إلى هنا محاضرات إجبارية عن التعاليم الداعشية. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يأتي فيها أبو سيف إلى البيت بعد ولادة الطفلة “ليلان” قبل ما يقارب الثلاثة أشهر.
نظرت نرمين ككل مرة إلى أبو سيف وهي تغلي حقداً، وهو يقول آمراً: – عدت من الجهاد، فابعدي هذه “العجية” عنك وغطي وجهها، فأنا أكره رؤيتها. لم تتحرك نرمين، وإنما ظلت تنظر إليه بحقد لا متناهٍ، فصرخ: – لماذا لا تستوعبين الدروس التي تلقيتها من المجاهدات؟ لماذا لا تستوعبين أن الجارية لا يُستأذنها زوجها لأنه اشترى جسدها؟! لماذا لا تفهمين؟ لقد اشتريتك بمالي عندما كنتِ معروضة للبيع. لقد اخترت جسدك بعد تفحصي لأكثر من عشرين فتاة، وعليك أن تكوني ممتنة لأنني اخترتك أنت، فأنت ملكي! قاطعته نرمين وهي تبصق في وجهه، وصرخت بحقد واضح: – أنتَ حقير! إنهال عليها ضرباً بكلتا يديه الخشنتين وركلها بحذائه الملوث الوسخ، فيما كانت هي تتكور لتحمي الرضيعة بجسدها التي بدأت تبكي بصوت عالٍ. مما جعل أبو سيف يصرخ بعصبية بالغة: – لقد صبرت عليكِ كثيراً بسبب جمالك. أقسم براية داعش أنني سأنتقم منكِ وأشوّهكِ وأجعلكِ تندمين يا كافرة! وإلى جهنم وبئس المصير! أكثرت من البصق عليه عدة مرات وهي تضم الرضيعة أكثر فأكثر، فيما خرج وهو يهدد: – سأجعلكِ تدفعين الثمن غالياً هذه المرة! سأحرق قلبكِ وأرمي طفلتكِ لحماً للكلاب! وخرج ولم يعد في تلك الليلة، فيما ظلت هي ساهرة تناجي الرضيعة: – أقسى أنواع العذاب يا صغيرتي أن الدم الذي يسري في جسدكِ هو دمي ممتزجاً بدم أنذل خلق الله! سأعود بكِ يوماً إلى بلدتي سنجار، حيث أمي وجدتي. في المرات الكثيرة التي كنت أحصل فيها على درجات النجاح والتفوق، وحال وصولي إلى البيت عائدةً من المدرسة، كنت أُرتمي فوراً وأبكي في أحضان أمي أو جدتي.
ومن دون أن أعبّر عن سبب بكائي، كانتا تقولان: كوني يا نرمين متفوقة دائماً لتبقى روح بابا سعيدة في السماء. أبي الذي مات بحادث سير وأنا في الثالثة من عمري. ولكن يا ابنتي، إياكِ أن تسأليني عن أبيكِ كما كنت أنا أسأل عن أبي! سكتت ثم تابعت: – اصرخي يا ابنتي دوماً في وجه والدكِ قائلةً: “أنتَ حقير!” اعذريني يا ابنتي إذ أنطق بهذه الكلمة غير اللائقة بمسامعكِ البريئة. يا ابنتي، كلمة “حقير” تليق به وبهم جميعاً، وبمن ساعدهم. إنها الكلمة التي يستحقها كل من كان نذلاً، حاقداً، ومجرماً! تستمر نرمين في إرضاع الصغيرة الجميلة ذات الرقبة الطويلة والشعر الأسود المجعد وهي تناجيها وتطبع القبل على جبينها. وككل مرة، تسأل الطفلة: – ما هي حكمة الله من أن تتوارثي الصفات الجمالية مني ومن أمي وجدتي؟ مرت عشرة أيام ولم يعد أبو سيف منذ تلك الليلة. وبعد شهرين من الآن ستحل الذكرى الثالثة لاختطاف نرمين. ومنذ ذلك الوقت، وهذا أبو سيف الذي يسمونه “أميراً” يسجنها في هذا البيت، وتحرسها النساء الداعشيات اللواتي يتواجدن في البيت ويتغيرن باستمرار. تستلقي نرمين على فراشها المفروش على الأرض مع ابنتها التي سمتها “ليلان” بينها وبين نفسها، إذ إن مثل هذه الأسماء محرمة عند عصابات داعش. تتأملها على الضوء الخافت، إذ كانت كل أضواء البيت خافتة ليلاً للاحتياطات الأمنية. وإذا بثلاثة من المسلحين يدخلون الغرفة، أخذوا ابنتها منها بالقوة وأعطوها لواحدة من النساء، ثم جروها خارج البيت وأدخلوها في سيارة جيب عسكرية، وهي تصرخ ألماً وعذاباً وكأن حريقاً قد نشب فيها. قام الثلاثة بسد فمها بقطعة تكتيم، وكبلوا رجليها ويديها بسلاسل معدنية، وكذلك شدوا عينيها بقطعة قماش سوداء سميكة. ظلت تتعذب وتتململ لفترة ليست بالقصيرة، ثم أنهكها التعب فنامت أو غابت عن الوعي تماماً. فتحت نرمين عيونها بعد فترة بذهول، فلم يكن فمها مسدوداً ولم تكن مكبلة الأيدي والأرجل. وكانت السيارة سيارة تاكسي، ولم يكن الأشخاص نفس الأشخاص الذين أخذوها وأخذوا منها ابنتها، وإنما أشخاص يرتدون ملابس مدنية عادية. نظرت نرمين هنا وهناك كالمجنونة، وعرفت أنها الآن في حدود إقليم كردستان العراق، فانتابتها نوبة من البكاء حيث أرض الوطن. بكى السائق وبكى الرجل الذي كان بجانبها، وقال لها باللغة الكردية: – لا تخافي، سنذهب إلى جدتكِ. – جدتي؟! قالتها بذهول وتساءلت: – وأمي؟! فأجهش الرجلان بالبكاء، فأخذت تصرخ. تناوب الرجلان على تهدئتها: – اصبري يا أختي… اصبري، سيكون كل شيء كما تريدين.
سيأخذ الله حقك من الظالمين… سينتقم الله ممن كان سبباً… سينتقم الله ممن ساعدهم وساندهم! دقائق وسنصل. دخلت السيارة إلى مخيم اللاجئين خارج مدينة دهوك. استقبلها أهل المخيم بفرح مجنون؛ منهم من كان يبكي، ومنهم من كان يصرخ، ومن النساء من كانت تزغرد ودموعها تنهمر، ومنهن من كانت تلطمن الخدود وتشققن صدور الفساتين! ارتمت في حضن ابن خالها “بلند”، الناجي الذي كان خارج سنجار عند وقوع الهجوم. هرعت لدخول الخيمة وسقطت عند قدمي جدتها. أخذ بيدها بلند وارتمى كلاهما على صدر الجدة يبكيان، فبكت النساء وندبن: -أم نرمين… أم نرمين، انهضي من قبرك! ..تعالي، لقد عادت نرمين! ..تعالي.. لقد قتلوكِ وأنتِ تستبسلين في أخذها منهم! ..تعالي.. لقد عادت نرمين! ..انهضي من قبرك، فلقد عادت مدللتكِ الوحيدة! ..انهضي من قبرك لتحيا أمك المريضة.. تعالي..تعالي أم نرمين… تعالي! يا الله..يا زمن..يا فلك..لماذا؟ لماذا سلطت علينا كل هذا الظلم؟! لماذا؟ لماذا ؟! جلست نرمين على يمين رأس جدتها، وجلس بلند على يسارها. تأملتهما الجدة بعيون ذابلة متعبة، وبالكاد مدّت يدها اليمنى نحو نرمين واليسرى نحو بلند، وحاولت جاهدة تقريب اليدين إلى بعضهما. بدأت تتحدث، فسكت الجميع، ينصتون إليها وهي تتكلم كلمة كلمة وكأنها تتحدث من عالم آخر: – اسمعيني يا نرمين، ابن خالكِ بلند هو الناجي الوحيد من الذبح والقتل. نرمين، اهتمي به… يا نرمين… تزوجيه… آه، عزيزتي نرمين، اشتريتكِ من أنذال داعش ببيع البيت الذي اشتريناه في دهوك لننتقل إليه عندما تُقبَلين في الجامعة! اشتريتك يا نرمين! اشتريتك يا نرمين! هل سمعتِ أحداً يشتري ابنته! آه… آه… سكتت فارتفعت أصوات بكاء وأنين الحضور، ثم تابعت، فعاد الجميع مرةً أخرى إلى الصمت: – بلند، اهتم بنرمين، لا تتركا بعضكما أبداً… تزوجا، أمانة الله، أحبّا بعضكما وأحبوا كل الإيزيديين، إنهم مظلومون. بل أحبوا كل الدنيا، أحبوا كل العالم، وتكاتفوا لأخذ حقكم من الظالمين. وليكن لكما الكثير من الأطفال، وعلّموهم حب الناس، كل الناس. توقفت الجدة عن الحديث للحظة وهي تنقل بصرها إلى وجوه جميع الحاضرين المعلقة أنظارهم بها. ثم انتقلت عيونها إلى نرمين وبلند، وشهقت ولفظت أنفاسها الأخيرة.
صرخت نرمين وصرخ بلند وهما يفركان رأسيهما بصدر الجدة: – لا، لا تموتي جدتي، لا تموتي… لا… وارتفعت أصوات الجميع بالنحيب والبكاء. وفجأة سُمعت صرخات خارج الخيمة: – حريق… حريق! اختلطت الأصوات، وعمّت فوضى الخوف والرعب. غابت نرمين عن الوعي، وعندما نهضت كانت على الفراش في خيمة جدتها التي كانت مليئة بالناس العائدين من دفن الجدة. على مفترق ذكريات مفجعة كثيرة وواقع قاسٍ لحياة في مخيمات بائسة ينتشر فيها الفقر والمرض، ومع نشوب الحرائق بين فترة وأخرى، وجدت نرمين نفسها تمد يدها إلى بلند، فأخذ بتقبيلها. وتبادلا نظرات تعجز كل قواميس العالم عن وصفها. سمعت بكاء الحاضرين يختلط مع بكاء طفلتها. بحثت عن مصدر الصوت علّها تجد طفلتها، ثم كفت عن البحث… ربما فيما بعد ستخبر بلند أن لها طفلة اسمها ليلان، وربما لم ولن تخبره أبداً، لأن أبا ليلان داعشي حقير! وربما بحثت عنها واشترتها يوماً ما، وربما كثيرة أخرى…



