اراء

الذكاء الاصطناعي: هل نتحول من سلع الى عبيد؟

دخيل شمو 

يستوعب مستخدموا التطبيقات الحديثة للذكاء الاصطناعي الذين يبلغ عددهم حوالي ملياري شخص، حجم وفوائد هذا التطور التكنولوجي الهائل للبشرية، وفي ذات الوقت فهم يتنبؤون أضراره الكارثية إذا ما أودع أمره لجشع الشركات والحكومات المهيمنة على هندسته وتطويره. هذا يعني ان حوالي ربع سكان العالم الآن يستخدمون هذا الذكاء فعلياً. ولكن قد لا يستثنى الا القليل من ٨ مليار من سكان الكوكب، من تأثيراته، سواء كانوا على دراية بما يمكن لهذا الذكاء فعله بعالمنا أم لا.
وقد بدأ الناس يستشعرون بما يفعله هذه الابتكارات بعد إطلاق 5-GPT في أغسطس 2025. وبحسب سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI يُعد هذا الابتكا ر أول نموذج موحّد من OpenAI، الشركة المتخصصة في أبحاث ونشر الذكاء الاصطناعي، حيث يحتوي على نموذج سريع لإجابات سريعة، وآخر للتفكير العميق، مع وحدة توجيه ذكية تختار الأنسب تلقائيًا بحسب طبيعة الطلب. لذلك يمثل هذا التحديث قفزة نوعية نحو نموذج موحّد أكثر ذكاءً ومحسّنًا من الناحية المهنية.

منذ إطلاق تطبيقات الذكاء الاصطناعي بامكانياتها التي تفوق إمكانيتنا كبشر منذ عشرات السنين، باتت العديد من الأسئلة المخيفة تتبادر إلى أذهاننا وتشغل حيزا كبيرا من وقتنا واهتماماتنا اليومية: ألا يفقد البشر دورهم القيادي في الابتكار واتخاذ القرارات إذا تجاوزت قدرات هذا الذكاء الفكرية والإبداعية قدرات الإنسان؟ ماذا نفعل لضمان مستقبل أفضل لأطفالنا بينما التنبؤات تشير إلى انه بإمكان هذا الذكاء أداء ملايين الأعمال بشكل أسرع وأدق وبأقل كلفة؟ من يضمن ان الشركات العملاقة أو الحكومات الدكتاتوريّّة والمستبدة لا / لن تسيء استخدامها؟ ألا يعني هذا أننا مقبلون على زمن بات يتوجب علينا فيه تعليم أطفالنا مهن بدائية كالزراعة والصيد إذا أردنا لهم حياةً لها امتداد لنقاء الطبيعة بكلّ تفاصيلها؟

ولكن، حتى لو فكّرنا وعملنا بفكرة العودة إلى أساليب الحياة البدائية فإن تطبيقها يبقى مستحيلا ما دمنا نحن الآباء والأجداد لا نستطيع تجاوز هيمنة هذه الثورة العالمية العملاقة. لذلك نحن أمام تحديات كبرى لا نملك غير خيارين متعاكسين؛ إما القبول بالأمر الواقع وننجرف مع التيار أو أن نعتزل العالم من حولنا.

لا أعتقد ان هنالك كائن عاقل يقف ضد الابتكارات العلمية التي تخدم البشرية بما فيه الذكاء الاصطناعي الذي لا حدود لمنافعه في كل مجالات حياتنا اليومية والمستقبلية، وبالأخص الجانب الصحي. لأنه سوف يكون بإمكان الذكاء الاصطناعي إنقاذ
الأرواح عن طريق تشخيص الأمراض مُبكرًا، والإسراع في معالجتها وعشرات المهام المصيرية الأخرى كالحد من حوادث المرور. والمشكلة هنا اننا نقبل على هذا الابتكار ونتبناه لكن غير مختارين، بل ودون ان نضمن أن كان سيُساعدنا في إدارة اعمالنا واحوالنا حتى النهاية أم انه يسحب البساط من تحت اقدامنا ويحل بالتالي شيئا فشيئا محلنا نحن البشر في اتخاذ القرارات المهمة وصولا من ثم الى إستلابنا وتجريدنا كليا من قدراتنا الواعية.

منذ عقود ونحن ندفع المال للحصول على بعض الاختراعات والابتكارات التكنولوجية لكي نستهلكها وننتفع بها في تسهيل أمور حياتنا اليومية والمهنية. وبقينا مستهلكين حتى عندما ساعدت تطبيقات العقدين الماضيين واستخدامات الانترنيت عمليات
المراقبة والتجسس التي قامت بها الحكومات والشركات عن طريق احتكار بياناتنا. غير أننا اليوم نستخدم وننتفع بعشرات التطبيقات الأذكى من سابقاتها دون ان ندفع لشركاتها المال ونستمر في استخدامها ونحن نعرف إننا نمرر كل بياناتنا إبتداءاً بأسمائنا وانتهاء بمشاعرنا وأمنياتنا إلى مراكز حفظ البيانات التي تمتلكها الشركات العملاقة.

وإذا أراد المرء أن يحصل على معلومات عن تلك المراكز ومن يديرها، ما عليه إلا أن يسأل ChatGPT نفسه
أوGoogle فان ماكينة البحث لن تبخل عليه، بل ستقدم له ما يرغب معرفته في ثواني قليلة. مما يعني اننا أصبحنا في عالم بات يهيمن عليه هذا الذكاء الخارق- الذي لا يعرف ماذا يفعل او كيف يفعل ما يفعله، ناهيك عن عدم امتلاكه الوعي المدرك مثل البشر- وتحولنا نحن البشر وبكامل إرادتنا من كائنات فاعلة؛ مستهلكة للتكنولوجيا إلى سلع. لذلك لن نكون فضوليين إذا أردنا ان نعرف من الذي أصبح يمتلكنا كسلع جاهزة للبيع؟

من البديهي ان تقف في المقدمة شركات التكنولوجيا العملاقة التي تقود تطوير الذكاء الاصطناعي مثل مايكروسوفت، گوگل، أمازون، ميتا، آپل في حفظ بيانات المستخدمين. هذه الشركات التي تدمج الذكاء الاصطناعي في أجهزتها تعتبر المستفيد الأكبر لأنها تطوّر نماذج الذكاء الاصطناعي وتبيعها كخدمات.

تخبرنا هذه الشركات والحكومات على السواء بأننا أصبحنا سلعا بمجرد استخدام بياناتنا الرقمية من قبل الشركات التي تملكها منذ سنوات. ولأن بياناتنا الرقمية أصبحت ذا قيمة مادية، فقد بدأت هذه الشركات تغذينا لحظة بلحظة بما نحتاجه من معلومات
وتقدم لنا الخدمات وتجيب على الأسئلة التي تخطر ببالنا. وهي أيضاً تلهينا بأشكال كثيرة من أساليب المرح والترفيه التي تنتجها وسائل التواصل الاجتماعي البدائية والمتطورة. ولكن مع كل نقرة على هاتفنا الذكي أو أي جهاز إلكتروني آخر فإننا نطلع تلك الشركات -المتنافسة للحصول على بيانات سكان العالم – على عدد هائل من المعلومات والبيانات، حتى لو كانت في غاية السريّّة. والسؤال هنا: ألا يخيفنا هذا الأمر؟ خصوصا وان تلك الشركات لم تعد تخفي هذه الحقائق الصادمة.

وتزامناً مع الإنجازات الهائلة في قطاع الذكاء الاصطناعي بدأت الشركات المهيمنة تأخذ بنظر الاعتبار مخاوف أكثر من ملياري مستخدم ومستفيد. فمثلا عندما كشفت شركة الأبحاث OpenAI عن نموذج جديد يدعى Sora 2 لتوليد مقاطع فيديو- في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر 2025 اوضحت انها “تدعم التكامل والتشابه الصوتي المتزامن ويمكن للمستخدمين إنشاء مقاطع فيديو لأنفسهم تحتوي على حوارات ومؤثرات صوتية، وتحميل تسجيلات تم التحقق منها “، وحاولت طمأنة مستخدميها، فأصد ر الشركة بياناً تؤكد قائلا ” إننا قمنا ببناء طبقات متعددة من الحماية لمنع إساءة الاستخدام وسنستمرفي
تعزيزها عندما نتعلم من كيفية استخدام الأشخاص لها.” بالطبع انتهاك حقوق الطبع والنشر هي واحدة من تلك الاستخدامات المسيئة.

وفي ذات الوقت وصلتنا أنباء من ولاية كاليفورنيا الأمريكية التي تأوي العديد من الشركات التي تعمل في قطاع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، تؤكّد تشريع عدة قوانين لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي بداية شهر أكتوبر 2025 تركز على “الشفافية والسلامة والمساءلة وتعكس هذه القوانين نهج كاليفورنيا الاستباقي في تحقيق التوازن بين الابتكار وثقة الجمهور ونشر الذكاء الاصطناعي بشكل أخلاقي.”

قد تبدد هذه المبادرة الكاليفورنية مخاوف البعض، ولكن حتى الآن لم تؤكد لنا حكومات الدول العظمى مثل أمريكا والصين
ودول الاتحاد أوروبا- التي تتنافس للاستحواذ على القدر الأكبر من تقنيات الذكاء الاصطناعي- إنها ستعمل على تشريع قوانين عالمية لمنع سوء استخدام بياناتنا. وهم لم يبادروا حتى الآن ولو شكليا الى اتخاذ خطوات لوضع القوانين واللوائح التنفيذية لتقيد بشاعة وجشع الشركات كيلا تتجاوز المعايير الأخلاقية. فالالتزامات الأخلاقية كانت واحدة من المعايير الأساسية التي كانت البشرية تتفق عليها في المنظومة الاجتماعية عبر العصور ابتداء بالقبلية مرورا بالأر ستقراطية ثم الاشتراكية والرأسمالية وانتهاء بالليبرالية التي هي في تراجع مستمر خلال أكثر من عقد من الزمن بسبب عجزها عن حماية وضمان الحقوق والحريات الأساسية للبشر.

المتابعون لهذه الإنجازات العلمية المتسارعة يتفقون على أن البيانات هي وقود الذكاء الاصطناعي، وهم لا يشككون طبعا في
الفوائد اللامحدودة لهذا الذكاء، ولكن إذا كانت حفظ هذه البيانات غير آمنة أو أسُيء استخدامها، حينها يُصبح الذكاء الاصطناعي خطيرًا. ولهذا السبب، هناك حاجة ملحة إلى قواعد أخلاقية وحماية شفافة للخصوصية في كيفية جمع الذكاء الاصطناعي للبيانات ومجالات استخدامها والمتاجرة بها دون ظوابط.

بالإضافة إلى ذلك فإننا أمام خطر آخر أكثر جدية إلا وهو حرية اتخاذ القرارات- أهم جانب يميز البشر عن باقي المخلوقات- فيما لو صحّ تنبؤات المتخصصين في استخدام الذكاء الاصطناعي. فهم يقولون إنه بمجرد تدريب الذكاء الاصطناعي، فإنه يستخدم بيانات جديدة غير مرئية للتوصل إلى توقعات أو اتخاذ قرارات خارج إرادتنا. وما يجعل الأمر أكثر تعقيداً هو غياب
قوانين تعطينا الحق في امتلاك بياناتنا الشخصية والتي بإمكان مراكز حفظها الإقدام على تجميعها، فرزها، استخدامها وتحويلها في زمن قياسي.

وعلينا ان لا ننسى أن هذا الذكاء يتدرب على التفكير في تزويد النتائج مع استمرارية استخداماته وتحديث بياناته. والمشكلة الحقيقية هي أننا نواجه خطر ان تخرج هذه البيانات من السيطرة قبل ان يصمم ليكون في خدمة البشرية تماماً، يقدم للناس
تفسيرات لكيفية اتخاذ قراراته واستنتاجاته، ويساعد البشر في صنع قراراته، لا ليحل محلهم خاصة في مجالات تتعلق بالمسائل الأخلاقية والصحية والعدالة.

لذلك، تصوّر، في هكذا عالم، ماذا سيحصل لمريض رفض ان يطيع أوامر من يهيمن على مصدر رزقه؟ والمنطق يقول ان الإنسان مستعد ان يضحي بكل ما لديه لاستعادة صحته المتدهورة. وقد يعني هذا ظهور دكتاتوريات بمواصفات ممتازة تمنح مواطنيها سبل العيش، ولكن تقرر لها أساليب الحياة. لهذا، فالخوف الأكبر هو أن الأجيال التي تكبر مع الذكاء الاصطناعي سوف لا تملك الحرية في اتخاذ قراراته. فالذين يطورون ويصممون الذكاء الاصطناعي ويملكون البيانات هم الذين يحددون
ويفرضون على العامة نمط حياتهم، تخصصهم، عملهم، شركاء حياتهم، نوع سياراتهم، وانتخاب ممثليهم، لا بل قد يجردهم من قرار الاعتزال عن العالم – الواقع، إذا أردوا ان يختارو نمط العيش في العصور الوسطى.

ومن الطبيعي أن نرى تزايد هذه التنبؤات التشاؤمية مع كل تطبيق جديد إذا ما وقف العالم- المتحضر- مكتوف الأيدي أمام أخطار إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي للبيانات. لذلك قد نرى في المستقبل القريب دعوات منظمة على مستوى الأفراد والمؤسسات المدنية تطالب الحكومات برسم ضوابط عمل لتعزيز التطوير الأخلاقي للذكاء الاصطناعي، وتطبيق تقنيات تحافظ على خصوصيات الفرد والجماعة. وإلا فإننا نسير الى فوضى قد تقتلعنا من الجذو ر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى