تحقيقات

يُحرمن من الميراث .. القيم العشائرية تبطل الشرع والقانون

آلاف النساء بين ناري قطيعة الأهل والمطالبة بحقوقهن، يخضن معارك “خاسرة” في مواجهة عوائلهن او يستسلمن بصمت لقيم العشيرة

ايزيدي24 عن شبكة نيريج 

سعاد عبدالقادر

خلال بضعة أسابيع تحولت حياة “سوزان” (اسم مستعار) إلى جحيم بعد رحيل والدها وتركه إرثا كبيرا من الأموال والأراضي. بعد مرور أسابيع قليلة على وفاته، اجتمع إخوتها الخمسة وقرروا عدم منحها حقوقها الشرعية والقانونية، جريًا على عرف اجتماعي عشائري طبقته الكثير من العوائل الكردية والعراقية طوال قرون.

تبكي السيدة الخمسينية التي تعيش في السليمانية بعد جدل حاد مع زوجها بسبب الإرث، إذ يطالبها برفع دعوى قضائية لاستعادة حقوقها. تقول: “ما فعلوه آلمني كثيرا، هو ظلم كبير لا يمكنني نسيانه أو مسامحتهم عليه، لكن أن أرفع دعوى عليهم في المحاكم فهذا أمر خطير في أعرافنا، وظلم بحق عائلتي ووالدي، سنصبح على كل لسان”.

لا تعرف “سوزان” التي لا تملك أي مورد مالي كونها ربة منزل، ما يجب أن تفعله، وهي تقف بين ناري زوجها الغاضب وأشقائها الذين قاطعوها. إذ يشكل الدخول في معركة قضائية طويلة معهم فضيحة اجتماعية، فيما يفجر سكوتها عنهم غضب زوجها الذي يعنفها لأنها “تنازلت عن حقها الشرعي وحق أطفالها الأربعة”، كما يقول. وما يزيد المشكلة تعقيداً أن عائلتها من العوائل المتنفذة ذات السلطة والمكانة الاجتماعية. تنظر العائلة إلى تصرف “سوزان” باعتباره “تقليلاً من قيمتهم وتصغيراً لهم، وأنه تصرف خارج حدود العرف والسلوك اللائق للعوائل الغنية والمرموقة”، وفق تعبير أحد أقرباء العائلة.

“سوزان” واحدة من آلاف النساء اللواتي حرمنَ من ميراثهن وحقوقهن المالية في ظل مجتمع قبلي ما زال يمارس التمييز ضد المرأة، ويعنفها اقتصاديا. فعلى الرغم من الجهود المبذولة لمكافحة العنف الأسري، في ظل بيئة قانونية تحكمها التشريعات والقوانين وتساندها مؤسسات الحماية الاجتماعية، يظهر مسح لوزارة التخطيط العراقية لعام 2023 أن العنف الاقتصادي هو أكثر أنواع العنف الذي تتعرض له النساء في العراق.

بعد أشهر من الخلاف الحاد، لم تجد “سوزان” مخرجا من مأزقها، إذ باتت تتعرض لعنف شبه يومي من زوجها، فيما تواجه رفضًا ومقاطعة من أشقائها المتنفذين الذين يهددونها بإمكانية “فعل أي شيء، فهم نافذون في أجهزة الدولة”، إذا ما لجأت إلى القضاء.

كان من الصعب الحصول من محاكم إقليم كردستان على بيانات وإحصائيات دقيقة عن عدد قضايا الميراث المرفوعة في المحاكم من قبل نساء. يوضح مسؤول قلم شعبة الأحوال الشخصية في محكمة دهوك عبدالوهاب احمد محي أن لجوء النساء إلى القضاء للمطالبة بحقوقهم من الميراث محدود للغاية، وذلك لاعتبارات في مقدمتها الأعراف والتقاليد الاجتماعية والقبلية.

كما أظهرت نتائج استمارة استبيان وزعتها معدة التقرير على 200 امرأة في القرى والمدن التابعة لمحافظات إقليم كردستان، أن اللجوء إلى القضاء ليس من بين المسارات المعتمدة عادة، إما تسكت عن حقها تمامًا أو ترضى بتسوية بديلًا عن اللجوء إلى القضاء.

ووفقا لمعطيات الاستبيان تنوعت أسباب الإحجام عن اللجوء إلى القضاء، أولها الخوف من عنف العائلة وعدم معرفة المسار القانوني لتحصيل حقِّهن قانونيًا.

الآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية للعنف الاقتصادي

يصف الدكتور ايوب انور سماقة التدريسي في جامعة صلاح الدين العنف الاقتصادي ضد المرأة ببعض السلوكيات والوسائل غير القانونية المتبعة للتحكم في قدرة المرأة على اكتساب الموارد الاقتصادية واستخدامها وإدارتها مما يصعب إمكانية خروجهن من دائرة الفقر والجوع والتمييز.

ويسترسل سماقة لافتًا إلى أن ما تواجهه النساء من العنف وخاصة العنف الاقتصادي يعيق فرص النمو الاقتصادي، ويتعارض مع أهداف التنمية المستدامة التي تتعامل مع النساء كشريكات في عملية التنمية، لا ضحايا لها .

تتعدى صور وحالات حرمان المرأة من الميراث وفقاً لما هو سائد من عادات وتقاليد، حيث تلجأ الكثير من العوائل والبيوتات إلى إجراء تسوية تحفظ من خلالها العائلة ميراثها من جهة، وتضمن من جهة أخرى صمت ورضا النساء. ووفق ما هو شائع ومعتاد، يتنازل المورِث عن أملاكه في حياته للذكور من أبنائه أو تجبر النساء على التنازل عن حقهن بعد وفاة المورث، ولاسيما في التركات العقارية. ووفقا لذلك فإن الكثير من العائلات لا تشجع تزويج بناتها بغرباء حسب العرف العشائري، وتفضل الزواج  من أولاد العم، لتتجنب بذلك دخول  أشخاص غرباء داخل العائلة فيصبحون مالكين للعقارات وربما يبيعونها للأغراب.

وإلى جانب الآثار الاقتصادية المترتبة على حرمان النساء من الميراث، تشير سوسن سعود مديرة منظمة سايا لحقوق الإنسان إلى أنه تترتب على العنف الاقتصادي تجاه النساء آثار نفسية واجتماعية سلبية، تتمثل في تدهور الصحة النفسية للنساء نتيجة شعورهن بالإحباط واليأس والعجز والقلق الدائم على مصيرهن، وتضيف أنّهن قد يعانين من انخفاض التقدير الذاتي والاكتئاب. ووفقا لسعود، فإن الشعور الدائم بالمظلومية والاعتماد المالي على الآخرين يؤدي إلى العزلة خاصة في ظل إدراكهن خسارتهن للعديد من فرصهن الاقتصادية والتعليمية والمهنية وأمور أخرى لا تعوض خاصة مع تقدم العمر.

ميراث النساء في ظل مثلث الخوف والخجل والجهل 

تجد الباحثة الاجتماعية نارين طه أن ظاهرة حرمان النساء من ميراثهن ليست وليدة الظروف الحالية، وإنما هي قضية متجذرة في المجتمع العراقي وفقاً لاعتبارات اجتماعية تحددت معها التنشئة الاجتماعية والقيم، بيد أن الانتشار الواسع  لهذه الظاهرة يتركز في القرى والأرياف أكثر من المدن. أما سبب انتشارها خلال العقود الثلاث في المدن، فترجعه “طه” إلى الهجرة من القرى نحو المدينة بسبب تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية في العراق، خاصة أن بعض المناطق تفتقر للاستقرار الأمني، وأخرى تعرضت للجفاف والتصحر نتيجة لآثار تغير المناخ. ووفقا لـ طه فإن خوف الكثير من النساء من الدخول في مواجهة مع عوائلهن، في ظل ما هو متبع من سلوكيات قد تصل إلى الاعتداء والقتل، يجعلهن يلتزمن الصمت إزاء حقوقهن.

كما أن هناك أسبابًا عديدة تؤدي إلى حرمان المرأة من ميراثها، منها جهل الكثيرات بحقوقهن القانونية وآليات الوصول لها، إلى جانب اضطرار بعضهن للتنازل عن حصتهن إما بدافع الخجل أو الخوف من تبعات مطالبتهن بميراثهن عبر المحاكم، أو من خلال التنازل عن نصيبهن إجبارًا أو طوعاً.

وهذا ما حدث مع “هلات سلمان” (44 عاما) ربة بيت في دهوك، أقصى الشمال العراقي، حيث تسود القيم العشائرية ويحرم النساء بشكل واسع من الميراث خاصة ما يتعلق بالأراضي الزراعية وعقارات العوائل في القرى. أجبرت هلات مثل كل شقيقاتها على التنازل قانونيا عن حصتها من ميراث العائلة قبل وفاة والدها بثلاث سنوات.

الوالد، وهو رجل دين وإمام جامع، أجبرها وشقيقاتها الأربعة على التنازل عن حصصهن من الأراضي والبساتين التي يملكها، ليضمن عدم حدوث مشاكل لأبنائه الذكور حين يتم حصر الإرث بعد وفاته.

تقول هلات، من دون أن يظهر على صوتها ما يوحي بتأثرها، أن والدها مثل باقي أفراد عائلتها من أعمام وأخوال لا يمنحون النساء أي شيء من الميراث، ووالدها يرى بعدم أحقية النساء بالإرث من باب تعبه طوال سنوات لتظل الأرض، التي تضم عدة دونمات، بيد أبناء العائلة ولا تذهب لغريب، وأنه حق لأبنائه الذكور الذين سيحملون اسمه من بعده، أما بناته فإن ميراثهن -إن حصلن عليه- سيذهب لأزواجهن.

تعيش هلات مع عائلتها في وضع مالي صعب، مثل أغلبية القرويات اللواتي لم يكملن دراستهن ولم يحصلن على وظيفة حكومية، فهي تقيم في بيت مستأجر مع أطفالها الثلاثة وزوجها الذي يعمل سائق أجرة، وهو ما يجبرها على العمل في الخياطة داخل المنزل للمساعدة في مواجهة متطلبات الحياة.

تضيف، وهي تبتسم “بين فترة وأخرى يتصدق عليّ أخوتي ببعض المواد الغذائية، وفي بعض الأعياد يعطونني مبلغا ماليا بسيطاً لا شيء آخر على الإطلاق.

إن الخوف من الوصمة وردود أفعال العائلة والقطيعة وما ستؤول إليه الأمور يمنع الكثيرات من التوجه للمحاكم.

وفي هذا السياق يذكر المحامي “كاروان نجيب”، تجربة بعض النساء اللواتي توجهن للمحاكم بدفع من أزواجهن أو أبنائهن، وتمكنَّ بعد سلسلة من التعقيدات والروتين من الحصول على ميراثهن من خلال تقديم شكوى على القسام الشرعي وعبر إزالة الشيوع فيما يخص العقارات، لكن ذلك كان سببًا بإحداث نزاعات وقطيعة. وبرأيه فإن الكثيرات يترددن في المطالبة بحقوقهن عبر المحاكم أو حتى من خلال العشيرة لتجنب القطيعة وكلام الناس عنهن. لكنه في الوقت نفسه يشجع النساء على التوجه إلى القضاء وتجاوز تلك الأعراف، وعدم التفريط في ميراثهن خاصة وأن القضاء كما يقول، رغم الروتين في المحاكم، يضمن للنساء حقوقهن في الميراث وفق للقوانين السائدة في المحاكم العراقية.

ميراث النساء في ظل القانون و الشريعة

يستند نظام الميراث على القانون الشرعي الإسلامي، الذي ينص على توزيع الميراث وفقًا للأحكام الشرعية. وفي العديد من الحالات، تتعرض النساء في العراق للتمييز في حقوقهن في الميراث مقارنة بالرجال. هذا التمييز يعود إلى تفسيرات وتطبيقات مختلفة للأحكام الشرعية والتقاليد الاجتماعية.

تقول المحامية ” ئافا نعمان” بأن القوانين العراقية مصدرها الرئيس هو الشريعة الإسلامية، والمرأة بموجب قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، أيا كانت صفتها، ترث حصة مختلفة عن الأخرى، فالقانون الوضعي المستمد من الشريعة الإسلامية يحفظ للنساء حقوقهن.

وتسترسل “نعمان” أن مسألة التنازل بالتراضي عن الحق بالميراث العقاري تحديدا، “هي إحدى الممارسات المعتمدة من قبل الكثير من العائلات والعشائر، لتبدو بذلك  أنها مراعية للشرع والقانون وبحسب نعمان فإن غالبية حالات التنازل تتم بالإجبار سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.

ووفقا لـ د. اسماعيل سكيري مختص بشؤون الشريعة الإسلامية فإن حرمان النساء من الميراث مناف لأسس المجتمع المتدين في غالبه، لأن الإسلام وهو دين البلاد الرسمي: “حدد بوضوح حق النساء في الميراث، بل أنصفها بمنحها النسبة الأكبر في بعض الحالات كالبنت الواحدة مع الأجداد والزوجة الأرملة مع أبنائها، فهو حرص على تقسيم وتوزيع الميراث بالسرعة الممكنة وعدم حصرها وذلك لتسود العدالة في توزيع الإرث بين الورثة وحتى لا يستأثر بعضهم على حصته  ويحرم غيره منها.

كما هو الوضع في حالة شكرية مجيد (49 عاما) ربة بيت وأم لأربعة أطفال أكبرهم (15 عاما)، حرمت مع شقيقتها الأكبر من الميراث بناءً على وصية والدها قبل أن يموت، الذي أكد على اتباع العرف بعدم توريث النساء الأراضي ولا حتى منحهن مقابلاً مالياً.

لم تتقدم شكرية بشكوى لدى المحكمة للحصول على حقوقها، للاعتبارات الاجتماعية واحتراما  لذكرى والدها، وخوفا من كلام الناس. تقول شكرية: “في عشيرتنا من المستحيل أن  تحصل المرأة على متر واحد من الأرض ، ويعتبرون ذلك أمرًا مهينا للعائلة ينقص من رجولة أخوتي”.

الامتناع عن توريث النساء يعود إلى فكرة مفادها بعدم السماح بأن يشاركهن  شخص غريب سواء الصهر (زوج البنت) أو  الأخت، إمكانية التصرف بالأرض  بما يسمح بخروج ملكيتها من نطاق أفراد عشيرة إلى أخرى.

شكرية حاولت كثيرا من خلال وساطات عائلية، أن تحصل على حصتها لكنها واجهت رفضا مطلقا وصل إلى حد تهديدها بأولادها وزوجها في حال إقدامها على المطالبة بحقوقها عبر المحاكم، ففضلت في النهاية الاستسلام والسكوت عن حقوقها، وهو ما فعلته شقيقتها أيضا.

هي اليوم تعيش اعتمادا على راتب زوجها الشهري الذي لا يزيد عن مليون وخمسمائة دينار (ألف دولار) ما يحرمها وعائلتها من الكثير من متطلبات الحياة في الوقت الذي يعيش فيه اخوتها في رفاهية.

 

تسوية ضمن العائلة

هناك عائلات تسمح للنساء بأن  تكون شريكة في الملكية على الورق دون الحصول على أي منافع، فيما يستغل الأشقاء الذكور التركة أو يتصرفون بها بيعا أو إيجارا”.

وترى سناء ابراهيم ناشطة مدنية أن الكثير من العوائل تترك النساء في انعزال مالي إذ  يتم منعهن  من الحصول على المعلومات والمهارات الاقتصادية الضرورية لتحقيق الاستقلال المالي، مما يجعلهن رهن الاعتماد الكامل على العائلة. وهي تجد في ذلك وسيلة لمد السيطرة الذكورية على ميراث نساء العائلة.

ففي أربيل عاصمة إقليم  كردستان، حيث توحي البنايات الشاهقة التي تحاكي التطور العمراني العالمي، وحيث الأسواق والمطاعم والمولات الحديثة، بانفتاح اجتماعي كبير، يظل حرمان النساء من الإرث  عادة قائمة لدى الكثير من البيوتات والعشائر.

إيمان  جمعة (53 عاما) وهي موظفة غير متزوجة، لم تحصل على أي قطعة أرض من إرث والدها، إلا أن أخوتها الذكور أعطوها حصة من بعض العقارات.

ولكونها غير متزوجة وتعيش في بيت شقيقها الأكبر، فإن  إدارة أموالها وما حصلت عليه من إرث بسيط، يتم من قبل شقيقها، وهي عمليا حرمت من حق التصرف بأموالها باعتبارها “امرأة وليست أهلا لذلك، فهي لا تعرف قواعد العمل وستفشل في إدارة تلك الأموال  واستثمارها”، وفق ما يردده أخوتها.

تقول إيمان “أخوتي يديرون أموالي لصالحهم فهم المستفيدون من ذلك ويجنون الأرباح”. وتضيف أعرف أن ذلك ما يحدث، وأثق بإمكانية  أن أقوم بإدارة  ما أملكه “لكن هذه التسوية العائلية أفضل من الدخول في صراعات ومشاكل في مجتمع لن يتفهم ذلك”.

أما في حالة سوزان، لم يحاول  أشقاؤها إرضاءها من خلال تعويض مالي مقبول، كما  حصل مع عائلة زوجها التي لم تعط للبنات حقوقهن الشرعية من الميراث، لكنها لجأت إلى  إرضائهن بمبلغ مالي عوضا عن الأراضي والعقارات.

يصف المحامي جهاد محمد ما يحدث بـ”الانتهاك الصارخ” لحقوق عشرات آلاف النساء، برضا وتوافق عائلي في ظل ذكورية مجتمع لم يغادر “تمدنه بالمظاهر الخارجية” لتغرق النساء في دوامة قيود لا خلاص منها تهمش حضورها الاقتصادي ودورها الاجتماعي.

وهذا حال سوزان، بعد عامين على وفاة والدها، مازالت تعاني من تعنيف الزوج ومقاطعة الأشقاء، لتظل ضحية مزدوجة لقيم قبلية لا تعرف منها خلاصا، وهي التي رغم “إرثها الشرعي” لا تملك مأوى تلجأ إليه أو موردا ماليا تعتمد عليه، وكل ما يشغلها في صراع الزوج والأشقاء هو أطفالها الذين قد يُسلبون منها إذا ما قررت الانفصال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى