
تم انتاج هذه المادة ضمن مشروع (تعزيز التماسك الاجتماعي وبناء السلام) المنفذ من قبل منظمة جيلان ودعم من UNDP وتمويل سخي من الحكومة اليابانية
مريم يونس
سنجار هي واحدة من المدن المشهورة في اقليم الجزيرة، وسميت بالجزيرة لأنها تقع بين نهري دجله والفرات وتشمل ديار ربيعة، وديار مضر ، وديار بكر. وهي مدينة تاريخية قديمة عمرها اكثر من ست آلاف سنة وتعتبر ثاني اقدم مدينة في الدنيا بعد مدينة دمشق وهناك دلائل كثيرة تشير الى ذلك ومنها المنحوتات الحجرية مثل الاواني الحجرية وآلات الحفر وغيرها من مستلزمات الحياة التي عثر عليها في الجبل والتي كانت تستخدم من قبل الإنسان في تلك الفترة.
سنجار هي المدينة الوحيدة في العراق التي تشمل على السهل والجبل والوادي وتعرف هذه المدينة باسم سنجار نسبة الى الجبل الموجود على محاذاتها ويبلغ ارتفاعه حوالي (1463م) عن مستوى سطح البحر، وتمتاز بعذوبة مياهها ومناخها وكثرة خيراتها.
منذ القِدم حيث كانت محطة استراحة الملوك والأمراء على مدى التاريخ وكانوا دوم التصارع عليها، للأسباب التي ذكرناها، ولموقعها الستراتيجي الحصين، وكانت تقع بين نهرين احدهما يسمى نهر الحتات ويجري من تحت السور الروماني ويصب في الثرثار والآخر نهر دار العين الذي كان يتجمع من مياه الينابيع الغزيرة المُنحدرة من الجبل ويشكلان نهران يجريان باتجاه الجزيرة، أي البادية، وتسقي بساتين النخيل والكروم والمحاصيل الزراعية كالقمح والشعير، والكتان، والسمسم.
وكانت سنجار وتحديدا، الجبل، من المصادر المنتجة والمصدرة الرئيسة في المنطقة من محاصيل الجوز وفرك اللوز والتين وذلك لملاءمة المناخ مع هذه المحاصيل ولخصوبة تربتها.
المسيحيون في سنجار إرث ديني يمتد لقرون
كانت مدينة سنجار في الماضي موطنًا للعديد من الكنائس والأديرة، حيث ذكر المؤرخ عبد الله المستوفي عند زيارته للمدينة عام 757 هجري (1356 ميلادي) أن سنجار احتضنت أكثر من 322 ديرًا وكنيسة معظمها كانت تقع في جبل سنجار ولا يزال جزء من هذه المعالم قائمًا حتى يومنا هذا.
التحولات الديموغرافية عبر التاريخ
شهدت سنجار تغيرات سكانية كبرى، إذ دخلها القائد العربي عياض بن غنم عام 18 هجريًا خلال الفتوحات الإسلامية وفرض على غير المسلمين ثلاثة خيارات: دفع الجزية، الدخول في الإسلام، أو القتل، وعلى إثر ذلك قُتل العديد منهم بينما أسلم البعض ودفع آخرون الجزية، مما أثر على التوزيع السكاني للمدينة عبر العصور.
وفي العصر الحديث أجرى الباحث يونس الببواتي عام 1996 إحصائية أظهرت أن عدد العائلات المسيحية في سنجار بلغ 324 عائلة إلا أنه بحلول عام 2014 ومع اجتياح تنظيم داعش للمدينة لم يعد للمسيحيين وجود فيها نتيجة الضغوط الاجتماعية والسياسية والاضطهاد الذي تعرضوا له كما تم تدمير ثلاث كنائس خلال هذه الأحداث، ما أدى إلى محو جزء كبير من إرثهم الديني والتاريخي.
النسيج الاجتماعي والتعايش المشترك
لطالما كان المسيحيون جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي في سنجار حيث اشتهروا بمزاولة الحرف المهنية مثل النسيج، الحدادة، وصناعة الأحذية، وكانوا يتميزون بإتقانهم لهذه المهن كما كانوا يمارسون طقوسهم الدينية بحرية ويحتفلون بمناسباتهم الخاصة بمشاركة المسلمين والأيزيديين، مما عزز حالة من التآلف والتعايش بين مختلف الطوائف.
وكان هذا الانسجام الاجتماعي واضحًا إلى درجة أن الزائر لمدينة سنجار لم يكن ليتمكن من التمييز بين أبناء الطوائف المختلفة نظرًا لقوة العلاقات بينهم، لكن الأحداث الأخيرة قلبت المشهد رأسًا على عقب، وأدت إلى اختفاء الوجود المسيحي من المدينة، تاركة إرثًا من الذكريات والمباني المدمرة التي تحكي قصة التعايش والاضطهاد معًا.
الأيزيديون في سنجار تاريخٌ عريق
لم يثبت اي مؤرخ أو باحث متى قدموا الايزيديين إلى سنجار، علما أن تاريخهم قديم جداً في المدينة، ويشير البعض منهم إلى “أنهم جاؤوا من مناطق هكارى في تركيا” هربًا من الاضطهاد والفرمانات التي تعرضوا لها عبر التاريخ وكان جبل سنجار بمثابة ملاذ آمن لهم حيث احتموا به على مر العصور.
تاريخ من الاضطهاد
تعرض الأيزيديون لأكثر من 74 فرمانًا وفقًا لما هو مُتداول، إلا أن المؤرخ والباحث محمود المارديني يشير، استنادًا إلى الأرشيف العثماني، أن “عدد الفرمانات التي استهدفتهم بلغت 117 فرمانًا” ورغم هذه الاضطهادات حافظ الأيزيديون على وجودهم ومعتقدهم في سنجار إذ لا يزالون يشكلون نحو ثلثي سكان المدينة رغم موجات الهجرة الأخيرة التي دفعت بالكثير منهم إلى الخارج.
سنجار، الاسم والتاريخ
الاسم الأصلي للمدينة كما ينطقه الأيزيديون بلهجتهم الدارجة هو “شنگالي” بإمالة الياء، أو سنجار لأنها معربة، ومنذ وقت ليس بطويل عن كما هو متداول.
وتمتلك هذه الديانة (١١) مرقداً ومزاراً تاريخياً تعكس عمقهم الديني والثقافي وعلى الرغم من الدمار الذي لحق بهذه المعالم على يد تنظيم داعش خلال الأحداث الأخيرة، فإن الأيزيديين تمكنوا من إعادة مزار (شيخ حسن) ومزار (شرف الدين) وغيرها من المزارات تأكيدًا على تمسكهم بجذورهم وتراثهم.
سنجار والحكم الإسلامي
دخلت سنجار تحت سيطرة العرب المسلمين عام 18هـ (٦٣٩م) في عهد الخليفة عمر بن الخطاب حيث أُعجب الفاتحون بجمال طبيعتها وكثرة ينابيعها وخيراتها الوفيرة مما دفع بعضهم إلى الاستقرار فيها حتى بعد انسحاب الجيش ومنذ ذلك الحين، أصبحت المدينة محط أطماع العديد من القوى، حيث تناوبت السيطرة عليها دول وملوك وأمراء مثل الحمدانيين، العقيليين، الأتابكيين، الفرس، الأيوبيين، والعثمانيين.
الإرث الروماني في سنجار
قبل السيطرة الإسلامية كانت سنجار تحت حكم الرومان الذين شيدوا سورًا دفاعيًا ضخمًا عام 136 ميلادي في عهد الإمبراطور الروماني أوريانوس وقد ذكر المؤرخ حمد الله المستوفي عند زيارته للمدينة أنه “قاس السور الروماني بخطواته وبلغ 132 ألف خطوة”، مما يدل على ضخامته وأهميته الدفاعية لكن هذا السور تعرض للتدمير والترميم عدة مرات نتيجة الصراعات التي شهدتها المدينة.
الحصار الأيوبي وسقوط سنجار
كان من أشد الهجمات التي تعرضت لها المدينة “حصار صلاح الدين الأيوبي” الذي استمر ثلاثة أشهر قبل أن ينجح في السيطرة عليها، وعند دخوله وحسب الكتب التاريخية ترجل القائد عن صهوة جواده في الباب الجنوبي للسور نظر إلى المدينة والجبل وأبدى إعجابه الشديد وانبهاره بجمالها حيث قال مقولته المشهورة: “صدق من قال إن سنجار مدينة أشجارها عالية وقطوفها دانية”.
العصر الذهبي تحت الحكم الزنكي الإسلامي
جعلت من سنجار مركزًا حضاريًا مزدهرًا في هذه الفترة ضُربت بها العملة، ازدهر التعليم، تطورت الحرف والصناعات، كما شهدت الزراعة نهضة كبرى بفضل نظام ري يعتمد على نهرين رئيسيين:
نهر دار العين الذي كان يجري تحت السور الروماني حيث يروي مساحات شاسعة من بادية الجزيرة ونهر الحدت الذي كان يصب في الثرثار وكان مصدر النهرين من الينابيع الجارية من قمة جبل سنجار.
كما شهدت المدينة بناء مدارس دينية (خانقوات) لتعليم الفقه والشريعة الإسلامية، حيث بلغ عددها أكثر من أربعة إلى جانب تشييد الجوامع، أبرزها الجامع الكبير، الذي شُيد في عهد محمد قطب الدين بن نور الدين بن عماد الدين الزنكي الثاني عام 598 هجري (1202 ميلادي) وكان إمام وخطيب هذا الجامع عبد الله الكردي وما زالت مأذنته المعروفة باسم “المنارة” من أبرز معالمه، حيث ذكرها الرحالة العربي ابن بطوطة في القرن السابع الهجري بكتابه (غرائب الامصار وعجائب الأبصار)حيث قال “نمت زُهاء الساعة تحت ظلال منارة سنجار”، والتي تم تدميرها على يد تنظيم داعش عام 2014.
سنجار عبر التاريخ مركز للتعددية الدينية والثقافية
على مر العصور، كانت سنجار ملتقى للعديد من الأقوام والأديان حيث تعايش فيها المسلمون، الأيزيديون، والمسيحيون، إلى جانب أقليات أخرى، ورغم الحروب والصراعات التي شهدتها، ظل النسيج الاجتماعي للمدينة متماسكًا مما جعلها أنموذجًا فريدًا للتعايش بين مختلف الطوائف.
منذ العصور القديمة كانت سنجار تحت حكم حضارات متعددة، بداية من الآشوريين (٩١١-612 ق.م) والبابليين، ثم الرومان الذين شيدوا سورها الضخم عام 136 ميلادي، وبعد ذلك الفتح الإسلامي عام 18 هجري، حين دخلها القائد عياض بن غنم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب وعلى الرغم من بعض التغيرات الديموغرافية التي طرأت نتيجة الفتوحات والحروب، بقيت سنجار مدينة تحتضن مختلف الطوائف.
عبر التاريخ، لم يكن التنوع الديني في سنجار مجرد تواجد جماعات مختلفة في المدينة، بل كان نمط حياة انعكس في الممارسات اليومية والمهن والعادات الاجتماعية.
الاديان.. تاريخ من الجوار والتعاون
لطالما كانت سنجار مدينة غنية بتنوعها الديني والثقافي، حيث شكلت مزيجًا فريدًا من الطوائف التي عاشت في تناغم وتعاون على مر العصور؛ في العصور الوسطى وتحديدًا في عهد الدولة الزنكية والأتابكية شهدت المدينة ازدهارًا كبيرًا في الحرف اليدوية، وكان المسيحيون من أبرز الحرفيين الذين برعوا في النسيج، الحدادة، وصناعة الأحذية، لقد اشتهروا بإتقانهم لهذه الحرف التي كانت جزءًا أساسيًا من الاقتصاد المحلي للمدينة، مما ساهم في تعزيز مكانتهم الاقتصادية والاجتماعية ولهذا السبب كانت إمارة من ضمن خمس امارات وهي حلب ونصيبين والموصل والرها.
ورغم الاختلافات الدينية، لم يكن ذلك عائقًا أمام التفاعل الاجتماعي بين أبناء المدينة فقد شارك المسلمون والأيزيديون في احتفالات المسيحيين الدينية، في حين شارك المسيحيون أيضًا في مناسبات الأديان الأخرى، مما عكس روح التضامن والاحترام المتبادل بين جميع الطوائف.
المؤسسات الدينية والمعمارية دليل التعايش
لم يقتصر التعايش في سنجار على العلاقات الاجتماعية، بل انعكس في عمران المدينة أيضًا فحتى عام 2014، كانت المدينة تضم العديد من دور العبادة لمختلف الأديان، أبرزها:
- المزارات الأيزيدية: التي ظلت شاهدة على تاريخ هذه الديانة في المدينة، رغم تعرضها للتدمير من قبل داعش.
- الكنائس والأديرة: التي بلغ عددها في الماضي أكثر من 322 وفقًا للمؤرخ عبد الله المستوفي، وكانت منتشرة خاصة في جبل سنجار.
- الجوامع الإسلامية: التي ازدهرت في العهد الزنكي وأشهرها الجامع الكبير الذي بقيت مأذنته (المنارة) قائمة حتى دمرها داعش عام 2014.
الاضطهادات والتحديات عبر التاريخ
رغم هذا التعايش الطويل لم تكن سنجار بمنأى عن الاضطهادات والصراعات الدموية، فقد تعرض الأيزيديون لأكثر من 117 فرمانًا وفقًا للأرشيف العثماني وكان المسيحيون أيضًا عرضة للتغيرات الديموغرافية خاصة بعد الفتح الإسلامي وحملات العثمانيين.
وفي العصر الحديث أدى اجتياح داعش عام 2014 إلى مأساة إنسانية شملت جميع سكان سنجار فقد تعرض الأيزيديون لإبادة وحشية، حيث قُتل الآلاف من الرجال، وسُبيت النساء، وتعرضت مزاراتهم الدينية للتدمير كما هُجّر المسيحيون بالكامل ولم يعد لهم أي وجود فعلي في المدينة، ولم يكن المسلمون بمنأى عن هذا الإرهاب، إذ استهدف داعش كل من لم يبايعه، ونفّذ عمليات قتل جماعي ضد السكان الذين رفضوا الانضمام إليه، بمن فيهم رجال دين وأئمة مساجد كما تم تدمير معالم دينية إسلامية بارزة، من بينها الجامع الكبير الذي تعود منارته التاريخية إلى العصر الزنكي.
إعادة الإعمار والجهود رغم التحديات
بعد تحرير سنجار من سيطرة داعش بدأ السكان الناجون في العودة تدريجيًا إلى ديارهم رغم الصعوبات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي ما زالت تعيق عودة الحياة الطبيعية بالكامل ورغم الدمار الذي لحق بالمدينة إلا أن سكانها لم يستسلموا بل بدأوا في إعادة بناء منازلهم وأسواقهم ومزاراتهم الدينية.
الأيزيديون: رغم الجراح عاد بعضهم لترميم مزاراتهم الدينية التي دُمرت خلال اجتياح داعش فقد تم إعادة بناء مزار الشيخ حسن، ومزار شرف الدين وغيرها من المزارات التي تحمل رمزية دينية وثقافية كبيرة لهذه الديانة كما بدأت الجهود لتوثيق الفظائع التي تعرضوا لها لضمان عدم تكرارها في المستقبل.
المسلمون: بذلوا جهودًا لإعادة بناء ما دمرته الحرب شملت هذه الجهود إعادة بناء مزار السيدة زينب الصغرى ومرقد السيد ذاكر الدين الأعرجي، اللذين تم تدميرهما على يد التنظيم الإرهابي كما بدأ المسلمون في ترميم منازلهم وأسواقهم، محاولين إعادة الحياة إلى شوارع المدينة.
المسيحيون: رغم أن المجتمع المسيحي اختفى تقريبًا من سنجار بعد تهجيره بالكامل إلا أن آثار كنائسه المدمرة لا تزال شاهدة على تاريخه العريق في المدينة وبينما لم تسجَّل اي عودة للعائلات المسيحية وتظل جهود الحفاظ على تراثهم قائمة على أمل أن تعود بعض العائلات يومًا ما إلى موطنها الأصلي.
التحديات الأمنية والسياسية عائق أمام الاستقرار
ورغم هذه الجهود، فإن الواقع في سنجار لا يزال معقدًا إذ تواجه المدينة تحديات أمنية وسياسية تعيق عودتها إلى وضعها الطبيعي، فالخلافات حول إدارة المدينة بين الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان إلى جانب وجود قوات متعددة النفوذ جعلت من سنجار ساحة للصراع السياسي، مما أثر بشكل مباشر على عودة النازحين وإعادة الإعمار.
كما لا تزال الألغام والمخلفات الحربية تشكل خطرًا على العائدين، حيث لم تتم إزالتها بالكامل ما يجعل الحياة في بعض المناطق محفوفة بالمخاطر، هذا بالإضافة إلى ضعف الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصحة والتعليم، مما يزيد من صعوبة الاستقرار.
سنجار رمز للصمود والأمل
رغم هذه الصعوبات، يبقى الأمل في نفوس سكان سنجار بأن تعود مدينتهم كما كانت مدينة التعددية والتعايش، فقد أظهر أبناء سنجار بكل طوائفهم إرادة قوية للنهوض من جديد حيث يعملون على إعادة بناء مجتمعهم، مستلهمين من تاريخهم العريق روح الصمود والتحدي.
إن مستقبل سنجار لا يعتمد فقط على إعادة الإعمار المادي بل أيضًا على ترميم الثقة بين مكوناتها المختلفة، وإعادة بناء جسور التعايش التي ميزت المدينة عبر قرون، وإذا ما توفرت بيئة سياسية وأمنية مستقرة، فإن سنجار قادرة على استعادة مكانتها كواحدة من أقدم وأهم المدن التاريخية في العراق لكونها ذات موقع ستراتيجي مهم، وكمثال حي على قدرة المجتمعات على تجاوز المحن والانتصار على الألم.