تحقيقات

قانون حظر الكحول: 77  شهراً بين التشريع والعجز عن التنفيذ

عادت بعض النوادي مجدداً لفتح أبوابها بمساندة جهات نافذة في السلطة، ما عزز القناعة بصعوبة تطبيق الحظر، فضلاً عن عمليات تهريب المشروبات المتواصلة عبر الحدود الى الداخل، في وقت لا قيود على تجارته في إقليم كردستان.

عادت بعض النوادي مجدداً لفتح أبوابها بمساندة جهات نافذة في السلطة، ما عزز القناعة بصعوبة تطبيق الحظر، فضلاً عن عمليات تهريب المشروبات المتواصلة عبر الحدود الى الداخل، في وقت لا قيود على تجارته في إقليم كردستان.

ما أن يهبط الظلام في العاصمة بغداد، حتى يبدأ سلام (49 عاماً) جولته اليومية المكوكية بين الأحياء السكنية لإيصال طلبات المشروبات الكحولية إلى زبائنه المعتمدين عليه بنحو كامل بعد إغلاق معظم المتاجر الخاصة ببيع المشروبات وحتى النوادي الاجتماعية التي تتبع الحكومة.

سلام يملك ومنذ نحو خمسة عشر عاماً، متجراً في جانب الرصافة، اضطر رسمياً إلى غلق أبوابه بعد صدور تعليمات حكومية في آذار/ مارس 2023 بتطبيق قانون حظر المشروبات الكحولية، لكن زبائنه القدماء ظلوا على تواصل معه، ويوصل طلباتهم بنفسه بعد تلقّيها عبر رسائل نصية. 

يقول بنبرة ساخرة: “أنا لا أخالف القانون، فهو ينص على منع صنع الكحول وبيعها، وأنا أوصله فقط الى الناس”، ويضيف مستدركاً :”لا عقوبات على إيصال المشروبات، وهي الآن الوظيفة الأكثر رواجاً في بغداد بعد الحظر الغريب الذي فرضوه”.

ويرى سلام، أن قرار الحظر حمل تداعيات كبيرة على آلاف العاملين في مجال المشروبات الكحولية، بخاصة من العاملين في البارات والنوادي التي أغلقت، ويوضح:”ليس التجار… هؤلاء وأنا واحد صغير بينهم لم يتأثروا، بل أصبحت الأرباح مضاعفة بسبب ارتفاع الأسعار، المتأثرون هم العمال في النوادي والبارات والفنادق والمولات، ومعظمهم مسيحيون وإيزيديون خسروا أعمالهم”.

ويشير الى أن المعتقدات الدينية لهؤلاء المتضررين لا تحرم عليهم التعامل مع المشروبات الكحولية أو تناولها، بعكس الحال في الإسلام الذي يعد المصدر الأساس للقوانين العراقية، والذي استندت إليه الأحزاب الدينية في مجلس النواب، لتشريع وتمرير نص قانوني لحظر المشروبات الكحولية.

ولا يعتقد سلام، أن الحظر سينجح في العراق، لأسباب عدة، بينها طبيعة المجتمع العراقي المتنوع، ولأن الحظر لا يشمل إقليم كردستان المتمتع بإدارة ذاتية، ويقول:”المشروبات الكحولية تُستورد عبر منافذ الإقليم وتصنع هناك، ويتم تهريبها الى جميع مدن البلاد”.

ويوضح أن الحظر لن يشمل بأية حال بلدات المسيحيين والإيزيديين في سهل نينوى أو قضاء سنجار، وهي مناطق لا تتبع حكومة إقليم كردستان. ويستدرك: “إنه قانون يطبق على ناس دون آخرين، أي أنه حبر على ورق بالنسبة الى البعض!”.

وكانت الهيئة العامة للجمارك العراقية وجهت في مارس/ آذار 2023 جميع المناطق والمراكز الجمركية في ما عدا التي في إقليم كردستان، بمنع دخول المشروبات الكحولية بمختلف أشكالها، وذلك بعدمل دخل قانون واردات البلدية رقم 1 لسنة 2023 حيز التنفيذ بعد نشره في جريدة الوقائع العراقية (الجريدة الرسمية) بعددها 4708 في 20 شباط/ فبراير 2023.

ويتضمن هذا القانون في مادته 14: “حظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الكحولية بمختلف أنواعها”. وتنص الفقرة الثانية من المادة ذاتها على:”فرض عقوبات على من يتصرف خلافاً لهذا النص وغرامة مالية لا تقل عن 10 ملايين دينار عراقي ولا تزيد عن 25 مليون دينار”. 

وعلى الرغم من سريان القانون، إلا أن نواديَ اجتماعية كبيرة ومرافق سياحية عدة كالفنادق، استمرت بتقديم المشروبات الكحولية بشكل طبيعي، إلى أن منعتها وزارة الداخلية في أواخر 2024، كما شنت حملات لملاحقة أصحاب المتاجر التي تبيعها.

ثم عادت بعض النوادي مجدداً لفتح أبوابها بمساندة جهات نافذة في السلطة، ما عزز القناعة بصعوبة تطبيق الحظر، فضلاً عن عمليات تهريب المشروبات الكحولية المتواصلة عبر الحدود الى الداخل وأيضاً من إقليم كردستان إلى باقي أنحاء العراق. إلى جانب نشوء سوق سوداء لبيعها في الداخل وبأسعار مضاعفة عما كانت عليه قبل فرض الحظر. ناهيك بوجود أقليات يشكلون بين 3 إلى 5 في المئة من سكان البلاد لا تحرم تشريعاتها الدينية المشروبات الكحولية، ويتم تصنيعها في بلداتهم ومنها تنتقل أيضاً الى مناطق أخرى، وفي الأساس هم يرون في الحظر تضييقاً على حريتهم التي نص عليها الدستور، ويطالبون بإلغاء القانون أو وضع استثناءات عليه. 

كما أن الذاكرة العراقية تسجل خلال العقدين المنصرمين، فرض حظر على بيع المشروبات الكحولية وتصنيعها في محافظات عدة سواء بموجب قرار لمجلس المحافظة أو أوامر لجماعات دينية متشددة مسيطرة، وفي كلا الحالتين انتهى الحظر بالفشل لعدم إمكان تطبيقه بنحو كامل ومستمر.

77 شهراً بين التشريع والتنفيذ!

 

صوّت مجلس النواب على قانون واردات البلدية رقم 1 لسنة 2023 المتضمن مادة حظر المشروبات الكحولية في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، إلا أنه لم ينشر في الجريدة الرسمية ليدخل حيز التنفيذ في آذار/ مارس 2023، وذلك لأسباب عدة يحدد الباحث والكاتب علي محب، أهمها بقوله:

“العراق كان يخوض وقتها حرباً ضد تنظيم داعش بمشاركة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وكانت هنالك خشية أن يؤثر تنفيذ القانون آنذاك على العلاقة بالتحالف، إضافة إلى تجنب اتهام الحكومة العراقية التي تسيطر عليها أحزاب دينية شيعية بممارسة أفعال تنظيم داعش ذاتها، فقد كان هو الآخر يحظر بيع الكحول وتناولها في المناطق التي يسيطر عليها”.

وكانت هناك أسباب أخرى منعت ذلك، منها وجود دعاوى عدة للطعن بالقانون أمام المحكمة الاتحادية، رفعها نواب مسيحيون وإيزيديون وجهات آخرى.

وعلى الرغم من أن حظر الكحول ورد ضمن قانون، إلا أن مشرّعيه لم يحددوا الأسباب الموجبة للحظر في نص القانون كما يفترض في قوانين مماثلة، متخصص في القانون (طلب عدم الإشارة الى اسمه، تجنباً لعقوبة من نقابة المحامين العراقيين التي حددت بالأسماء من يمكنهم التصريح للصحافة من أعضائها)، علل ذلك بقوله:

“إذا ذكر المشرع السبب الموجب لوضع القانون، وهو بطبيعة الحال أن غالبية المجتمع العراقي مسلم، شيعة وسنة، فذلك يعني إقرارا بنص القانون على التضييق على حريات الأقليات من مسيحيين وإيزيديين واضطهادهم”.

وذكر المتخصص القانوني، أنه كان يتوجب على مجلس النواب أن يحدد استثناءات في المادة 14 من قانون واردات البلدية، مثل:”عدم شمول الحظر المناطق التي توجد فيها الأقليات المسيحية والإيزيدية، لأن أي تفسير للنص سيتوصل الى النتيجة هذه حتماً، وقد يتهم النظام العراقي جراء ذلك بأنه يتسبب بهجرة الأقليات الى خارج البلاد لعدم تمكّنهم من ممارسة حرياتهم”.

وأشار كذلك إلى أن الاستثناء يجب أن يشمل الفنادق والمرافق السياحية ذات التصنيف العالي التي يرتادها سياح ومستثمرون أجانب، وأيضاً مواقع الشركات الأجنبية الكبيرة كالتي تدير حقول النفط وغيرها، وتلك التي يوجد فيها عمال أجانب.

وتوقع أن يعود المشرع العراقي في النهاية لإلغاء نص “حظر استيراد وبيع وتصنيع المشروبات الكحولية” أو على الأقل وضع استثناءات عليه: “إذا ما أراد العراق أن ينظر إليه كدولة مدنية تحقق عدالة اجتماعية نسبية وتسعى الى الاحتفاظ بعلاقات ودية مع المجتمع الدولي”.

المحكمة الاتحادية ترد دعاوى النقض!

 

أعضاء مجلس نواب وشخصيات سياسية مؤيدة لتشريع نص قانون حظر المشروبات الكحولية، يؤكدون أنه متوافق مع الدستور العراقي الذي ينص في المادة الثانية (أ) بعدم جواز “سن قانون يتعارض مع ثوابت الإسلام”. 

وبما أن التشريع الإسلامي يحرم تناول وبيع وتصنيع الكحول، فإن حظره يأتي متوافقاً معه، لذلك عد البعض من النواب تمرير القانون نصراً دينياً، ومن بين هؤلاء، مقدم مقترح القانون عن كتلة (دولة القانون)الشيعية، النائب (السابق) والقاضي محمود الحسن، إذ هنأ فور التصويت على القانون في تشرين الأول/ أكتوبر 2016  المراجع الشيعية، مؤكداً أن الدستور يؤيد حظر الخمور. 

لا يتوفر وصف للصورة.

في حين أن للكثير من العراقيين وجهات نظر مخالفة لمؤيدي حظر الكحول، ويرون في سريان القانون مخالفة للمادة الثانية من الدستور العراقي، وهي المادة ذاتها التي يقدمها مؤيدو الحظر على أنها داعمة لموقفهم، فالفقرة (ج) تنص على ألا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور”.

فلا تتضمن تشريعات المسيحيين والإيزيديين تحريماً للكحول كما الإسلام، والكثير منهم يتعاملون معه بيعاً وشراءً وتصنيعاً، وحظر بيعه وتصنيعه يعني توقفاً لأعمالهم وتأثيراً مباشر على معيشتهم، وبالتالي تعارضاً مع المادة (22/أولاً) من الدستور العراقي، وتنص على: “العمل حق لكل العراقيين بما يضمن لهم حياة كريمة”.

كما يعدّ المعترضون حظر الكحول خسارة لواردات مالية تدعم الدولة، وذلك لأن استيراده يحقق رسوماً بمبالغ كبيرة للخزينة العامة، فضلاً عن الرسوم التي تفرض على منح إجازات ممارسة المهنة (بيع الكحول) والضرائب التي تفرض عليها (نسبة الضرائب المفروضة على الكحول كانت تبلغ 200%)، الى جانب ما يلحقه القانون من ضرر بالغ بقطاع السياحة في الفنادق والمنتجعات السياحية والنوادي الاجتماعية.

ويعتقدون كذلك بأن حظر استيراد الكحول، سيؤدي بالنتيجة إلى تهريبه على نطاق واسع، وإلى ازدهار عمليات المتاجرة غير المشروعة به، وهو ما حصل فعلياً في الأشهر الأخيرة، بشهادة المتاجرين به ومتخصصين بالاقتصاد، فضلاً عن مساهمته في زيادة الفساد المالي والإداري في المنافذ الحدودية والرقابية، حيث تدفع رشاوى للتغطية على دخول تلك المواد، ما قد يؤدي إلى زيادة انتشار متعاطي المخدرات. 

هذا كله، أوردته عشر شخصيات من بينها، النائب أسوان الكلداني، والنائب السابق ورئيس هيئة السياحة يونادم كنا، وآخرين، في دعاوى طعن أقاموها أمام المحكمة الاتحادية التي وحدت تلك الدعاوى بالأرقام(37 ،40، 45، 47، 48، 50، 57 ، 58، 66، 92) ونظرت في القضية، وأصدرت قرارها بالعدد 35 في 27/8/2024 برئاسة القاضي جاسم محمد عبود. 

ونصّ القرار على رد الدعاوى كلها، لكون القانون ينسجم مع النصوص الدستورية “بألا يشرع قانون يتعارض مع ثوابت الإسلام التي أجمع عليها جميع فقهاء المسلمين”. وأورد قرار الحكم نصاً قرآنياً يشير إلى مضار “الخمر”، وحديثاً نبوياً يؤكد تحريم المسكرات “الخمر”.

كما أكد قرار المحكمة الاتحادية أن النص القانوني بحظر الكحول صدر منسجماً مع الدستور العراقي، وأنه “يصب في ميدان الحفاظ على القيم الأخلاقية والاجتماعية للأسرة العراقية”، ويؤدي الى اجتثاث سبب من أسباب “ارتكاب الكثير من الجرائم والمشاكل الاجتماعية”. 

وكانت المحكمة الاتحادية رفضت في 13/3/2023 إصدار أمر ولائي ضد رؤساء الجمهورية والنواب ومجلس الوزراء، بناءً على لائحة قدمها عدد من تجار المشروبات الكحولية، الذين طالبوا برفع الحجز الجمركي على مشروبات كحولية استوردوها قبل سريان قانون الحظر ووصلت مع بدء سريانه، فاحتجزتها الهيئة العامة للجمارك. 

والأمر الولائي بموجب المادة 151 من قانون المرافعات العراقي هو: أمر أو إجراء إداري مؤقت يصدره القاضي المتخصص، في الحالات المبينة قانوناً، على العريضة المقدمة من أحد أطراف الخصومة المشتملة على وقائع ومستندات والمعززة بالمستندات في موضوع مستعجل.

هؤلاء التجار ذاتهم كانوا أقاموا دعوى أمام المحكمة الاتحادية بالرقم 39، طعنوا فيها بدستورية المادة 14 من قانون واردات البلدية رقم 1 لسنة 2023، لذا فإن طلبهم إصدار أمر ولائي كان للسماح بإدخال ما استوردوه لحين صدور قرار حاسم في دعواهم. 

أضرار اقتصادية بالغة 

 

لا توجد إحصاءات دقيقة بشأن الخسائر التي ستتكبدها الخزينة العامة في العراق جراء حظر الكحول، إلا أن الخبير الاقتصادي فؤاد عبد الله، يشير إلى أن العراق استورد خلال سنتي 2020 و2021 منتجات كحولية بقيمة تزيد عن 19 مليون دولار. 

ويضيف: “هذا الوارد الرسمي بموجب وزارة التخطيط، لكن القيمة الحقيقية أكبر من ذلك بكثير بسبب الفساد المستشري في المنافذ الحدودية، إذ كانت المواد الكحولية تسجل في أحيان كثيرة على أنها منتجات أخرى لتقليل نسب الرسوم والضرائب المفروضة عليها، أو لم يكن يدفع عنها شيء أصلاً، بتمريرها مقابل رشى أو تهريبها”.

كما يؤكد أن آلافاً من العاملين في مجال تصنيع وبيع ونقل الخمور فقدوا وظائفهم، لافتاً إلى أن غالبيتهم من غير المسلمين. ويرى أن ذلك يؤثر بنحو جدي على الاقتصاد، ويشير باستغراب الى أن بغداد أعلنت بدءاً من مطلع العام 2025 “عاصمة للسياحة العربية”، ويستدرك:”من المعروف أن الفنادق الكبيرة والمجمعات السياحية تستقبل سياحاً من داخل البلد وخارجه، وكثير منهم يختار وجهته السياحية على أساس توافر الكحول”.

كما عبر الخبير الاقتصادي عن استغرابه من التأكيدات المتوالية باستمرار على استيراد “لحم الخنزير، المحرم في الإسلام”، في حين تم “حظر الكحول فقط”، ويقول عن ذلك: “هنالك من يقول بأن استيراد العراق لحم الخنزير أمر طبيعي لوجود مسيحيين فيه وعمال أجانب، وهم لا يحرمون تناوله، لكن ماذا عن المشروبات الكحولية؟ لماذا لم يفكر المشرع بمن لا يحرمها؟”. 

النائب المسيحي السابق جوزيف صليوة، قال في تصريح لقناة فضائية، إن المشروبات الكحولية كان مسموحاً بها في العراق على مر العصور “حتى في زمن الخلافة العباسية”، وأنها منعت فقط خلال السنوات الأخيرة من عهد نظام حزب البعث، إذ منعها الرئيس الأسبق صدام حسين خلال ما عرف وقتها بـ”الحملة الإيمانية”، وأيضاً خلال الفترة الحالية. 

وذكر أن حظر الكحول جاء لمصلحة جماعات مسلحة خارجة عن القانون تسيطر على تجارة الكحول فعلياً وتجني من خلالها أموالاً كبيرة، وأيضاً لتسهيل الترويج للمخدرات كالكريستال وغيرها، والتي تدمر المجتمع العراقي، “وإلا فلا يوجد سبب آخر يدعو الى هذا الحظر”، حسب قوله. 

قانون بطيء التفعيل

 

على الرغم من سريان قانون الحظر منذ آذار/ مارس 2023، إلا أن الكثير من متاجر بيع المشروبات الكحولية في العاصمة بغداد وغيرها من المحافظات العراقية واصلت بيعه، سواء بنحو علني أو سري، ما دفع الشرطة المحلية الى القيام بحملات أسفرت عن غلق الكثير منها، في حين استمرت النوادي الاجتماعية بتقديمه وبيعه وحتى تصنيعه. 

هيئة السياحة فاتحت دائرة المنظمات غير الحكومية التابعة لرئاسة الوزراء بموجب كتابها المرقم 1363 في 10/10/2024، وأيضاً وزارة الداخلية فعلت الشيء عينه بكتابها المرقم 13407 في 11/11/2024 وابلغتاها بحظر تصنيع وبيع المشروبات الكحولية بأنواعها كافة في النوادي الاجتماعية المسجلة لديها وفقاً لقانون المنظمات غير الحكومية رقم 12 لسنة 2010 . 

وقد أخطرت دائرة المنظمات غير الحكومية، النوادي الاجتماعية بذلك، ومنها نادي العلوية الشهير في العاصمة بغداد بموجب كتابها المرقم 54848 في 17/11/2024 وهددت باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة في حال عدم الالتزام بالحظر. 

وكذلك فعل نادي الصيد الاجتماعي في بغداد (وهو من أرقى النوادي الاجتماعية في العاصمة)، عندما وجهت إدارته، المتعهد الرئيسي فضلاً عن متعهدي مطعم الباشا ومطعم ناس بداخل النادي، بمنع تقديم المشروبات الكحولية بأنواعها كافة ابتداء من يوم الاثنين 18/11/2024. 

ولكن، هل يطبق حظر المشروبات الكحولية بنحو كامل في العراق؟ سؤال طرحه معد التقرير على عدد من بائعي الخمور وناقليه ومواطنين في العاصمة العراقية بغداد، ولا سيما بعد إعادة افتتاح بعض النوادي الاجتماعية بعد أيام قليلة من غلقها.

 وكلهم أجمعوا ابتداء على أن المشروبات الكحولية تباع علناً في بعض مناطق العاصمة وبالخفية في مناطق أخرى بأسعار مضاعفة عما كانت عليه قبل سريان قانون حظر الكحول في آذار/ مارس 2023، وأن هنالك جهات تملك سلطة أمنية وحزبية توفر الدعم لنواد ومتاجر لبيع المشروبات الكحولية رغم القانون والتعليمات والإجراءات التنفيذية.  

ففي منطقة الكرادة وسط بغداد، قابل معد التقرير صاحب متجر للكحول يدعى(أ.م)، يقول بأنه كان مستمراً في البيع حتى بعد سريان القانون، “لكن الشرطة تذكرت فجأة بأن هنالك قانوناً يجب تطبيقه، فاضطررت الى أن أوفر لزبائني ما يحتاجون إليه من خارج المتجر”.

وذكر أن الحظر تسبب باختفاء أصناف معينة مثل “عرق العصري العراقي الصنع، لأن معمله أُغلق أصلا”، وأن الكثير من الأنواع المغشوشة سادت، “بل إن غالبية الموجود باتت مغشوشة، الأصلي قليل وغال”. وحدد الأسعار السائدة لبعض من أنواع المشروبات كالتالي: “عرق جلنار بحدود 15 ألف دينار، وويسكي جوني ووكر بلو بين 70 الى 80 ألف دينار، والجك ماستر 50 ألف دينار، والريد ليبل 40 ألف دينار، والبالنتاين 35 ألف دينار والسير أدورز 17 ألف دينار، وليام 25 ألف دينار”.

ويؤكد أن الاسعار متباينة من منطقة الى أخرى، وأيضاً فهي تحدد بحسب نوع المنتج وجهة تصنيعه “الأصلي يكون بأسعار أغلى”، كما يذكر (أ.م) بأن معظم الأصناف الموجودة تصنع في إقليم كردستان وتهرب الى باقي المحافظات، “والأنواع الأصلية أيضا ًتستورد عبر منافذ الإقليم الحدودية ثم تصلنا”. 

شاب في عقده الثالث، يعمل على دراجة (تكتك) يقول إنه يعرف الكثير من باعة المشروبات الكحولية وزبائنهم، وهم يتصلون به بنحو يومي ليوصل الطلبات الى مناطق متفرقة من العاصمة. يقول: “بالمال يمكن أن تفعل أي شيء!”.

يذكر ذلك ثم يستسلم لنوبة ضحك قبل أن يتابع موضحاً: “أصحاب بعض المحلات يدفعون للشرطة، وهي توفر لهم الحماية، صحيح أنهم لا فتحون أبواب متاجرهم علناً، لكن الكل يعرف أنهم مستمرون في البيع مع وجود الحظر”.

ويشير إلى أن الذين يتعاملون بجدية مع حظر الحكول هم عناصر “الحشد الشعبي، لأن غالبيتهم متدينون وقادتهم أعضاء أو قادة في أحزاب دينية”.

حظر الكحول قبل تشريع القانون

 

قبل تشريع نص المادة القانونية لحظر المشروبات الكحولية في 2016 وسريانه في 2023، كان هنالك حظر فعلي مطبق في عدد من مناطق العراق، هذا ما يستذكره الكاتب والباحث مراد خليل، من أبرزها: محافظتا نينوى والأنبار غرب البلاد.

فقد كانتا منذ 2003 أي بعد سقوط النظام العراقي السابق واحتلال البلاد من الولايات المتحدة الأميركية، مسرحاً لنشاطات الجماعات الدينية المسلحة كالقاعدة وأنصار الإسلام، وفي 2006 بدأ نشاط تنظيم الدولة الإسلامية الذي أصبح يعرف في ما بعد بـ(داعش) وصولاً  إلى صيف 2017، عند تحرير تلك المناطق من سيطرة التنظيم. 

ويضيف: “طوال تلك السنوات، كانت الجماعات المسلحة تستهدف محال الخمور بالتفجير واغتيال أصحابها وخطفهم، وفرض العقوبات الجسدية على شاربي الكحول كالجلد أو الزج بهم في السجون خلال حقبة سيطرة داعش التي امتدت لنحو ثلاث سنوات”.

وفي قضاء الشرقاط التابع لمحافظة صلاح الدين وسط العراق، وجه رئيس المجلس المحلي في القضاء  أحمد الجبوري في 11/7/2018 قائمقامية القضاء بغلق محلات بيع “الخمور” وذلك بموجب كتاب حمل الرقم 7790.

وفي البصرة أقصى جنوب العراق، فُرض حظر على بيع المشروبات الكحولية في الأماكن العامة أو تصنيعها أو استيرادها، وذلك بقرار من مجلس المحافظة صدر في 2 آب/ أغسطس2009، وفرض غرامة على المخالفين مقدارها خمسة ملايين دينار.

لكن وبعد ضغط شعبي، خصوصاً من مسيحيي البصرة، وكان من بينهم كثيرون يعتمدون في معيشتهم على بيع وتنصيع المشروبات الكحولية، تراجع مجلس المحافظة عن قراره بعد أسابيع من ذلك، وعزا الناطق باسمه حينها هاشم لعيبي، ذلك الى أن “القرار صدر أثناء سفر رئيس مجلس المحافظة إلى خارج البلاد، لكن مع عودته  أعاد عقد الجلسة وتم التصويت على إلغاء قرار حظر الخمور”.

خلال تلك الفترة، وتحديداً في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2009، صوت مجلس محافظ النجف، جنوب بغداد، على قرار ما زال سارياً، يقضي بحظر تناول المشروبات الكحولية وبيعها أو حتى مرورها في أراضيها، ومعاقبة المخالفين بإحالتهم إلى المحكمة الجزائية، وبررت القرار بـ”خصوصية النجف وتمتعها بالقدسية الدينية”. 

وفي 17 آذار/ مارس 2010، أصدرت الحكومة المحلية في محافظة واسط جنوب العراق، قراراً مماثلاً بحظر المشروبات الكحولية ومصادرة الكميات التي تضبط منها، ووفق مسؤول محلي من واسط، فإن الحظر كان مفعلاً في المحافظة حتى قبل صدور القرار، إذ أُغلق متجر وحيد كان في مركز المحافظة بالتزامن مع قرار الحظر الذي طبق في محافظة النجف. 

ويؤكد ضباط بقوى الأمن الداخلي، وناشطون مدنيون، من محافظات جنوب البلاد، أن الفترة ذاتها بدءاً من 2009 والى 2023، شهدت مناطق الجنوب انتشاراً كبيراً للمخدرات، بأنواعها المختلفة، إذ نشط آلاف المهربين والتجار لتوفير المخدرات لمئات آلاف المتعاطين من الرجال والنساء، نظراً الى سهولة تعاطي المخدرات وإخفائها مقارنة بتعاطي المشروبات.

وبناءً على مؤشر الجريمة المنظمة، فقد جاء العراق بالمرتبة 32 عالمياً من أصل 192 دولة، بتجارة المخدرات، وارتفعت أرقامه من 7.05 من أصل 10 نقاط في 2021 الى 7.13 درجة في 2023، فيما جاء العراق بالمرتبة الأولى بين 14 دولة في غرب آسيا.

وبالعودة الى الباحث مراد خليل، فهو يرى أن الحكومات المركزية المتعاقبة فضلاً عن الحكومات المحلية بعد 2003: “طابعها ديني، بسبب الأحزاب الدينية التي تسيطر عليها”، ويقول إنها تحاول باستمرار فرض قوانين وتعليمات تتوافق مع توجهاتها الدينية وفرضها على المجتمع العراقي كنوع من الدعاية، من دون النظر الى تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية. 

ويعدد أمثلة عليها: “منع تشريع قانوني حماية الطفل، وحماية الأسرة، وتشريع قانون تعديل قانون الأحوال الشخصية وربطه بالطوائف، وتعليمات ما يُعرف بحملة مكافحة المحتوى الهابط، الى جانب حظر الكحول”. 

أبو مهند (47 سنة) موظف قطاع خاص من بغداد، يقول متسائلاً بتهكم: “لماذا لا يفرضون زيارة الأماكن المقدسة على العراقيين جميعهم أو صلاة الجمعة أو الاحتفال بالمناسبات الدينية الإسلامية”، ثم يضيف:”إنهم يحولون العراق الى دولة إسلامية لا تختلف كثيراً عن التي أعلنها تنظيم داعش في العراق سنة 2014!”.

ويشير إلى أن ملامح التشدد ظهرت في إجراءات سابقة مثل: “اعتقال كل من يتلفظ بمفردات أو إيحاءات جنسية أو آراء معارضة للدين وللسلطة التي قوامها أحزاب دينية، وأيضاً تعديلات قانون الأحوال الشخصية لحرمان الإناث من حقوقهن وتزويج القاصرات وتخفيض سن الحضانة وفقاً للمعتقد الشيعي”.

يفكر قليلاً قبل أن يتابع: “ما زالت الثورة الإسلامية معشعشة في أذهان الأحزاب الدينية الشيعية التي ولدت وتربت في إيران، وهي تعيش في وهم الدفاع عن الدين والمذهب، ولا تتوقف عن محاولات نقل أسسها الى العراق، على رغم فشلها هناك وعجزها عن تقديم نموذج ناجح في أي من مناحي الحياة المختلفة”. 

ملاحظة: سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار في مكاتب الصرف في العاصمة بغداد يبلغ 152 ألف دينار مقابل 100 دولار. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى