أم في سنجار.. كيف صنعت “برفي” مستقبل أطفالها بإبرة وخيط
البداية "مشروع بــ 10 دولارات".. رحلة الحياكة استمرت لأكثر من 15 سنة
ايزيدي 24 – بسام جيجي
في مجمع حطين التابع لناحية الشمال ضمن قضاء سنجار غرب محافظة نينوى شمال العراق، ولدت “برفي خديدة” في العام 1988، عاشت حياة بسيطة مع اهلها واقربائها في القرية، لا تفكر بمشاكل هذه الحياة ومآسيها، تركض كل يوم في الأزقة وتلعب مع صديقاتها تارة ومع الأغنام تارة أخرى، كانت تحلم بأن تصبح “خياطة محترفة”، تعلمت “برفي” اساسيات الخياطة وهي لديها 12 عاماً فقط.
حياتها البسيطة والسعيدة
تتذكر “برفي” أيام طفولتها وتقول، “منذ طفولتي، كنت مهتمة بالخياطة. عندما كان عمري 12 عامًا، تعلمت أساسيات الخياطة وكان حلمي أن أصبح خياطة محترفة. كنت أخيط ملابسنا في البيت وأشعر بالإنجاز والفخر”.
تزوجت “برفي”، واستمرت حياتها ببساطتها، وكانت حياتهما مستقرة ويعيشان بسعادة، وكان زوجها يعمل حلاقاً ولديه محل خاص به، ويعيش زوجته وطفليه بنعمة وكرم، وتتحدث “برفي” عنه، قائلةً “عُرف بمهارته وحُسن تعامله، مما جعله محل تقدير وإقبال من سكان المنطقة، كنا نعيش حياة مريحة مع طفلينا؛ الصغير كان يبلغ من العمر 11 شهرًا، والكبير 4 سنوات”.
بداية المشاكل والمأساة
تغيرت حياتها رأسًا على عقب بعد وفاة زوجها وهي في سن صغيرة ولديها طفلين، وتقول بحسرة، “توفي زوجي عندما كان عمري 22 عامًا، ومنذ ذلك اليوم بدأت معاناتي الحقيقية”.
أصبحت “برفي” المسؤولة الوحيدة عن رعاية طفلين يتيمين، وكان عليها أن تتحمل كل تلك المسؤولية بمفردها وسط ظروف صعبة وحياتها تحولت الى مأساة، وبسبب تلك الفترة الصعبة واجهت صعوبة في تذكرها ولكونها أصيبت بأمراض نفسية، وتقول، ” أصبت بمشكلات نفسية نتيجة الضغوط المستمرة والوحدة، وبدأت أتناول الأدوية النفسية لمدة أربع سنوات؛ كانت الأوضاع صعبة لدرجة أنني حاولت الانتحار عدة مرات، لكنني في كل مرة تذكرت أطفالي وقررت الصمود من أجلهم”.
الإبادة الايزيدية
بعد الإبادة الإيزيدية في عام 2014 على يد عصابات تنظيم الدولة الاسلامية المعروف بــ “داعش” وعمليات النزوح القسرية لمئات الآلاف من الايزيديين من سنجار نحو محافظات إقليم كردستان العراق، اضطرت “برفي” لترك منزلها وما تملكه؛ ولكنها لم تقف مكتوفة الأيدي وقررت مرة أخرى العمل، لتعيل اطفالها، وتتحدث عن بدايات عملها بالقول، “في المخيم أتيحت لي فرصة المشاركة في دورة لتعليم الحياكة. خلال ثلاثة أيام فقط، تعلمت كيفية التطريز، ثم اعتمدت على منصة اليوتيوب لمشاهدة الفيديوهات التعليمية وتطوير مهاراتي بشكل أكبر”.
وتضيف “برفي”، “بدأت بممارسة الحياكة في البيت، وواجهت صعوبات كثيرة، خاصةً في شراء الخيوط التي كانت تكلف 15 ألف دينار عراقي (حوالي 10 دولارات أمريكية)، لم أكن أملك هذا المبلغ، فطلبت المساعدة من أختي، التي كانت تعمل ممرضة وتتقاضى راتبًا، هي بدورها أرسلت لي خيطًا بسعر 20 ألف دينار عراقي (حوالي 15 دولارًا أمريكيًا)، ومن هناك بدأت رحلتي في الحياكة. بدأت أخيط أحذية وملابس للأطفال الصغار وأبيعها، واعتمدنا لمدة سنتين على هذا الدخل البسيط”.
الاحتراف وتطوير مهاراتها
بعد احتراف التطريز، قررت “برفي” تطوير مهاراتها وتعلم الخياطة باحتراف من خلال الالتحاق بدورات تعليمية في المخيم، وتقول، “شاركت بدورة وفزت بالمركز الأول، حيث كانت الجائزة عبارة عن ماكينة خياطة وبعض الأدوات اللازمة، ونوهت الى أنها “عملت بتلك الماكينة لمدة ست سنوات في المخيم، وكان دخلي يعتمد على خياطة الملابس والحياكة، وبهذا الدخل استطعت أن أعيل أطفالي وأوفر لهم احتياجاتهم الأساسية”.
العودة من النزوح
مرة أخرى واجهت “برفي” صعوبات وتحديات في حياتها واعالة اطفالها وكذلك في عملها، خاصة بعد عودتها من النزوح الى سنجار، فقد كان منزلها مهدما جزئيا ويحتاج الى الكثير من المال ليعود كما كان، او لتستطيع العيش فيه مع طفليها، فهي تعيش في جزء صغير من منزلها يصلح للسكن، ولكن ليس لديها مكان مناسب للعمل ولا تستطيع تحمل تكاليف البناء او الترميم او حتى ايجار دكان.
التحديات والصعوبات
تشير “برفي” الى “أصعب لحظة عشتها كانت عندما رأى ابني بعض الفواكه عند الجيران، ولم أكن أملك المال لشرائها؛ تلك اللحظة حفرت في قلبي ألمًا كبيرًا، وقررت حينها أن أعمل بكل جهد كي لا يتكرر هذا المشهد. ومنذ ذلك الحين، لم أتوقف عن العمل، مهما كانت الظروف. لا أعتبر العمل عيبًا، بل أرى فيه مصدر فخر وقوة. كل شخص يعمل ليعيل نفسه وأطفاله يجب أن يشعر بالامتنان والفخر”.
وتضيف “برفي”، “لم أجد دعمًا كبيرًا من أحد، باستثناء بعض المساعدات البسيطة من الأشخاص المحبين لمساعدة الآخرين في المناسبات الدينية. حتى أخوة زوجي لم يتمكنوا من مساعدتي كثيرًا بسبب أوضاعهم المادية الصعبة. لكن رغم ذلك، لم أستسلم، استمررت بالعمل والاعتماد على نفسي”.
تواجه “برفي” الكثير من الصعوبات في حياتها، منها تحديات صحية، “أحتاج إلى مراجعات طبية شهرية وأتناول الأدوية باستمرار، ولكنني أضطر أحيانًا إلى إلغاء المراجعات بسبب قلة المال. رغم أنني أتلقى راتب الرعاية الاجتماعية من الدولة بقيمة 270 ألف دينار عراقي (أقل من 200 دولار أمريكي)، إلا أن هذا المبلغ بالكاد يكفي لتغطية احتياجاتنا الأساسية. أحيانًا أتخلى عن علاجي لأتمكن من شراء الطعام والملابس لأطفالي. صحة أطفالي وسعادتهم كانت دائمًا أولوية بالنسبة لي”.
ما حققته “برفي” وحلمها
الأبن الأكبر يبلغ من العمر 18 عاماً والأصغر 14 عاماً، كل تلك السنين وهي تحلم بأن تراهم كبار، وتقول “برفي”، “أنا فخورة بما حققته، فقد تمكنت من الوقوف على قدمي وتربية أطفالي بكرامة، وكلاهما لم يحتاجا إلى أحد طوال تلك السنوات، وهذا بفضل العمل الجاد والتفاني، أحلم أن أراهم ينهون دراستهم ويحققون مستقبلًا مشرقًا بعيدًا عن المعاناة التي عشناها”.
وتكمل “برفي”، حديثها “أتمنى أيضًا أن يتغير المجتمع ليصبح أكثر دعمًا للأرامل، وأن يُقدّر جهودهن في تربية أطفالهن بدلًا من النظر إليهن نظرة دونية؛ أريد أن يأتي اليوم الذي يقف فيه المجتمع بجانب الأرامل ويقدم لهن الدعم اللازم للنجاح”.
رسالة “برفي”
رسالتي لكل امرأة تستطيع العمل: اعملي ولا تظني أن العمل عيب، العمل ليس عيبًا، بل هو مصدر قوة وكرامة، لا تترددي في تطوير مهاراتك والاعتماد على نفسك، بغض النظر عن صغر المبلغ الذي تبدأين به؛ البداية البسيطة قد تقود إلى نجاح كبير، وأنا مثال حي على ذلك. المهم أن تعملي بفخر ورأس مرفوع، وتكوني مصدر أمان لأطفالك.
في النهاية، أحيي كل شخص يكدح من أجل نفسه وعائلته، وأؤمن بأن الله سيساعد كل من يعمل بجد وإخلاص.