
سرمد سليم
كانت ليلة من ليالي المربعانية الكريهة، حيث تتمدد الحرارة كذبابة ميتة في فم الزمن. لم تكن الحرارة مجرد قياس على مقياس مكسور؛ كانت عقدة انتقامية من الشمس، صفعة كونية ساخنة تخترق الجلد والذاكرة. الهواء، يا إلهي، كان هواءً ثقيلاً ولزجاً، كأنه مخاط متيبس من كائنات انقرضت وهي تلعن مصيرها. قبل يومين فقط من اللحظة التي سيكتشف فيها العالم، بتأخير مدرسي وقح، أن الإيزيديين ليسوا أسطورة جغرافية رخيصة، بل مجزرة حقيقية على الخريطة. ظهر هيغل على الطريق الترابي. كان مجرد كتلة لحم متعرقة، بقايا فيلسوف سقط، لا من كتاب، بل من حفرة مجاري الأفكار. العرق كان يتصبب منه بغزارة، كأن تاجر مخدرات يكشف عن البضاعة المخفية تحت بدلته الصيفية الرخيصة – التي كانت تبدو الآن ككيس شاي محترق وفارغ غرق في ماء الغضب. حمل سلة خوص فيها تين وعنب نصف فاسد، وأطلق على قذارته الفلسفية تسمية “جدلية غذائية”. كان غبياً، غبياً جداً. استقبله شڤان وسورا. سورا كانت تحاول إيقاف ثورة صنبور ماء. الماء كان ينفجر في وجهها كل خمس دقائق، بضجيج يشبه ضحكة الإله السادية. كانت تلعن الحكومة، والجبل، والأنابيب، والوجود، وكل شيء لم يكن له شرف الموت قبل عام 1990. شڤان، هذا الكائن العبثي، كان يضرب الناموس بيد، ويضرب خزان الحظ الفارغ باليد الأخرى. كان مهتماً بغسالة زوجته المسروقة أكثر من اهتمامه بمعنى الحياة، لأن الغسالة على الأقل كانت تدور، أما الحياة فكانت ساكنة كصخرة ملطخة.
قال هيغل، وهو يمسح نظارته التي كانت مجرد قطعة زجاج إضافية على وجهه المعطوب: «السلام! جئت لأشترك في مهرجان انتصار العقلانية! التين! العنب! الروح المطلقة… يا له من قيء فكري!» قاطعه شڤان، بإشارة سريعة نحو الوادي حيث تفوح رائحة الندم والطين: «يا هيغل، هناك حمار مطلق عالق في الوحل منذ ثلاثة أيام. الناس تمر وتمشي بجانبه وتقول: الله يعين. لكن لا أحد يعينه. هذا هو الانتصار يا فيلسوف، أن ترى الكائن يغرق بلا أمل. أعطنا خطة فلسفية لتخليص اللحم من الطين، أو اصمت.» تظاهر هيغل بالصمم.
العقلانية تستطيع تحمل الجرائم، لكنها لا تستطيع تحمل حمار عالق. إنه مشهد قبيح جداً. التفت إلى سورا، التي كانت تقاتل الصنبور بثبات جندي أدرك أن آخر طلقة في الحرب يجب أن تكون في رأسه هو. «هذا يا سورا، مثال ممتاز للأطروحة والنقيض!» بصقت سورا الماء الذي يمتزج فيه الصدأ بالخيبة وقالت: «يا رجل، الأطروحة هي أنني أريد ماءً بارداً، والنقيض أن المياه تجيء بنكهة مجاري آسنة. لا تلحس لي دماغاً بفلسفتك، أعطني مفتاح إنجليزي حقيقي لأكسر به هذا الصنبور اللعين!» من منزل الجيران، كان صوت المذياع يعلن عن أسعار الدولار كأنها نبوءة مسيحية كاذبة. لا أحد يهتم.
الكل كان يركض فقط من الحر الذي يذيب الكبرياء قبل أن يذيب اللحم. انفجر مصباح كهربائي تلك الليلة. ضوء أبيض حاد، ثم ظلمة. هيغل حاول أن يفسر: «النور لا يحتمل تناقضات الوجود!». سورا ضحكت بمرارة: «النور احترق لأنه رخيص ومضروب، مثلك تماماً». شڤان اكتفى بالقول: «يمكن بدلته احترقت أيضاً وما حس بيها هذا الرجل الفارغ.» ثم جاء ذلك الصوت. صوت معدني، ثقيل، مُدوي، يشبه جر ثلاجة مليئة بالأحشاء على أسفلت محروق. صوت يكسر الصمت ويضع سؤالاً حاداً في الحلق. سأل شڤان، برعب لم يكن فلسفياً هذه المرة: «هذا شنو؟ ما هذا القرف القادم؟» قال هيغل، بكل ثقة الغبي الذي يرتدي بدلة: «هذا صوت التاريخ، يا شڤان. إنه يجر أقداره، مقترباً من الروح المطلقة!» قهقهت سورا، ضحكة تشبه صرير المفتاح الإنجليزي على الصدأ: «صوت التاريخ؟ أي تاريخ؟ هذا صوت شاحنة مسروقة يا هيغل.
هنا التاريخ يأتي على شكل لصوص ومجرمين، لا أرواح مطلقة. التاريخ هو صندوق معدني متعفن يُرمى عليك.» لكن الصوت لم يكن شاحنة مسروقة فقط. كان إعلاناً وقحاً للكارثة. كان الباب الذي سيُفتح على جحيم يعرفون اسمه جيداً.
نام هيغل تلك الليلة متوهما أنه أخيرا وجد “المكان المناسب لتطبيق الجدلية”. أيُ حماقة! في الفجر، استيقظ شڤان على صراخ. ليس صراخاً فيه أي نبرة فلسفية، بل صراخ لحم مقطع وذاكرة ممزقة. صراخ لم يصدر عن عقل ولا عن أطروحة ولا عن نقيض. بل عن مجزرة تسير على أقدام غريبة ومُدججة بالكراهية. في تلك اللحظة الدموية، أدرك شڤان أن الفلسفة ليست ميتة فقط، بل مقتولة بالرصاص ومرمية في الوحل، وأن الروح المطلقة التي يتحدث عنها هيغل كانت في الحقيقة مجرد حمار بائس عالق في الطين.
حمار لم ينقذه أحد، لأن الجميع كان مشغولًا إما بالنجاة من الحر، أو بالانتظار السلبي للكارثة التي ستأتي، دون أن يملكوا خياراً سوى تقبيل قدميها.



