تحقيق استقصائي
طلال مراد – ايزيدي 24
“أنا لا أريد أن أكون هنا، لكني مضطر… نحتاج إلى الطعام والملابس، وليس لدينا من يساعدنا.” بهذه الكلمات التي تحمل في طياتها ألم الحاجة وفقدان الأمل، يبدأ غازي ذو الـ 13 عاماً، حديثه وهو واقف على مطب في الشارع العام في سنوني. غازي، مثل العديد من الأطفال الآخرين، يجبره الواقع القاسي على الوقوف لساعات طويلة في الطرقات والأماكن العامة، متسولاً القليل من النقود لسد رمق العيش له ولإخوته بعد وفاة والدهم. غازي يسكن الان في ناحية سنوني في قضاء سنجار في هيكل منزلي غير مكتمل على طريق كرسى و يعيش مع والدته و 3 اخوات و اخ يصغرونه بالعمر.
بينما في أسواق سنجار العامة، تتجول غزالة، طفلة لم تبلغ بعد 12 ربيعاً، تترك مدرستها وراءها لتحصل على مبلغ لشراء الأدوية لوالدها العاجز عن العمل بسبب مشاكل في العمود الفقري. “أريد فقط شراء الدواء لوالدي… إنه يعاني من ألم في ظهره، ولا يستطيع العمل.” كلماتها تأتي بطيئة، وكأن كل حرف منها يحكي قصة طويلة من الألم والمعاناة. غزالة، ببراءة طفولتها، تجد نفسها تجوب الأسواق، تطلب العون من الغرباء بينما كان ينبغي أن تكون بين أقرانها في المدرسة.
و بحسب مواطنون ,هذه الظاهرة المؤلمة لم تكن جزءاً من المجتمع الإيزيدي في سنجار من قبل، لكنها أصبحت اليوم مشهداً مألوفاً، نتيجة للنزوح والظروف الصعبة التي مر بها هذا المجتمع. الأطفال الذين كانوا يلعبون ويذهبون إلى المدارس، أصبحوا الآن وجهاً لوجه مع الحياة القاسية، يجوبون الشوارع بأعين يملؤها الصعاب في الحصول على مساعدة.
غازي وغزالة مثالين من بين مئات الأطفال في سنجار الذين يواجهون نفس المصير حيث اعد فريق ميداني خاص بنا على رصد و عد الحالات خلال شهر في مختلف المناطق في ناحية سنوني و قضاء سنجار و اكدوا انهم صادفوا عشرات الحالات في اماكن مختلف اغلبها كانت في ناحية سنوني و مركز قضاء سنجار سواء ممن يتجولون او من يقفون على الطرقات و الاماكن العامة. و يقول قائد الفريق نواف, بأسف” في كل زاوية من المدينة، تجد وجوهًا صغيرة تحمل في عيونها البريئة قصصًا مشابهة من الحاجة والفقدان. إنهم جميعًا ضحايا لنفس الظروف القاسية التي أفرزتها النزوح والفقر، حيث أصبح تسول الأطفال مشهدًا يوميًا يعكس معاناة المجتمع بأسره”
و هنا وجب التساؤل, كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ من المسؤول عن هؤلاء الأطفال؟ وكيف يمكن للمجتمع أن يتدخل لوقف هذه الظاهرة المؤلمة؟ هل تقع المسؤولية على عاتق العائلات التي فقدت معيلها، أم المجتمع ككل الذي يقف مكتوف الأيدي، أم الحكومة التي تبدو عاجزة عن توفير الدعم اللازم؟
التاريخ المظلم في العراق لهذه الظاهرة قد يصبح واقعا في سنجار..
ظاهرة تسول الأطفال أصبحت مصدر قلق متزايد في العراق، حيث تُظهِر التقارير ارتفاعًا مستمرًا في أعداد الأطفال المتسولين في الشوارع. وفقًا لإحصائيات وزارة التخطيط العراقية، فإن نسبة الأطفال الذين يلجؤون للتسول في تزايد كبير، مع تسجيل الآلاف من الأطفال في المدن الكبرى مثل بغداد والبصرة والموصل. تقديرات الأمم المتحدة لعام 2022 تشير إلى أن حوالي 1.2 مليون طفل في العراق معرضون لخطر التسول، وهو ما يمثل نسبة كبيرة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و17 عامًا. تقارير منظمات حقوق الطفل تؤكد أن الأطفال المتسولين يشكلون شريحة كبيرة من الأطفال الذين لا يحصلون على تعليم منتظم، مما يعرضهم لخطر الاستغلال والعمل القسري.
و في هذا السياق يقول مدير مؤسسة بنان للتنمية المستدامة ( محمود البرغشي) ” ان الزيادة المقلقة في تسول الأطفال ترتبط بعدة عوامل، أبرزها النزاعات المستمرة التي دفعت آلاف العائلات إلى النزوح وفقدان مصادر رزقها، والفقر المدقع الذي يجبر الأُسر على إرسال أطفالهم إلى الشوارع لتأمين لقمة العيش، إضافة إلى غياب الدعم الحكومي الكافي للأسر الفقيرة والمشردة، مما يترك الأطفال دون حماية ورعاية كافية”
و يكمل” في ضوء هذه الإحصائيات القاتمة، يصبح من الواضح أن المجتمع الإيزيدي في سنجار ليس بمنأى عن هذه الظاهرة. و اضاف ايضا” بعد موجات النزوح والتدمير التي شهدتها المنطقة، بات الأطفال الإيزيديون يواجهون نفس المصير القاسي، مما يعزز الحاجة إلى تسليط الضوء على المشكلة وإيجاد حلول فورية.
و يضيف ايضا ” إن وجود هذه الظاهرة في مناطق أخرى من العراق يشكل تحذيرًا واضحًا للمجتمع الإيزيدي بضرورة التحرك السريع لمواجهة تسول الأطفال في سنجار قبل أن تصبح جزءًا من الواقع اليومي و تتفاقم مستقبلا لتاخذ مسارات اخرى خطيرة على المجتمع باكمله.
او يشير البرغشي الى” التجارب المؤلمة التي يعاني منها الأطفال المتسولون في المدن العراقية الأخرى تقدم إنذاراً صريحاً للمجتمع الإيزيدي و يقول ” ينبغي التحرك بشكل عاجل لحماية أطفال سنجار من الوقوع في نفس المصير القاسي، وضمان أن تسول الأطفال لا يصبح مشهدًا مألوفًا في شوارع هذه المدينة “.
ماذا وراء هؤلاء الاطفال من اسباب لممارسة هذه الظاهرة
توضح تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) أن تسول الأطفال غالباً ما يكون نتيجة لمجموعة من العوامل المعقدة، بما في ذلك الفقر المدقع، النزاعات المسلحة، والتفكك الأسري. هذه الظروف القاسية تدفع الأطفال إلى الشوارع، حيث يصبحون عرضة للاستغلال والحرمان من حقوقهم الأساسية في التعليم والحماية. في سياق سنجار، تجتمع هذه العوامل لتُسهم في ظهور ظاهرة تسول الأطفال
فتقول الباحثة الاجتماعية خالدة في حديثها عن الأسباب الكامنة وراء ظاهرة تسول الأطفال في سنجار: “تسول الأطفال ليس مجرد نتيجة للفقر أو النزوح، بل هو مزيج معقد من عدة عوامل اجتماعية واقتصادية ونفسية. من أبرز هذه العوامل هو تقبُّل بعض الأُسر لهذه الممارسة، حيث يرى بعض الوالدين في تسول أطفالهم وسيلة لتأمين دخل إضافي، مما يدفعهم لدفع الأطفال إلى الشوارع بدلاً من حمايتهم أو إرسالهم إلى المدارس.”
وأضافت خالدة: “لقد تعلّم العديد من الأطفال هذه الظاهرة خلال فترات النزوح القسري، حيث كانت العائلات مضطرة للبقاء في المدن الكبيرة، بعيداً عن مجتمعاتهم الريفية التقليدية. هناك، شهد الأطفال تسول أقرانهم وتعلموا هذه الممارسة كوسيلة للبقاء على قيد الحياة في ظل الظروف الصعبة.”
وتشير هيام إلى عامل آخر مهم، وهو تشجيع الناس لهم من خلال تقديم المال. وتقول: “عندما يقدم الناس المال للأطفال المتسولين، فإنهم عن غير قصد يعززون هذه الممارسة. الأطفال يرون في هذا الأمر طريقة سريعة للحصول على المال، مما يحفزهم على الاستمرار في التسول بدلاً من البحث عن حلول طويلة الأمد أو العودة إلى التعليم.”
و تكمل خالدة: “هناك أيضًا غياب للرقابة والتوجيه من الجهات الحكومية والمجتمعية، مما يترك هؤلاء الأطفال بلا دعم أو حماية، ويدفعهم نحو الشوارع. بالإضافة إلى ذلك، الافتقار إلى الفرص التعليمية والخدمات الاجتماعية، يجبر الأطفال على اللجوء إلى التسول كوسيلة للبقاء.”
و تؤكد أن معالجة هذه الظاهرة تتطلب جهوداً متكاملة تشمل توعية الأسر بأهمية حماية أطفالهم، وتشجيعهم على إبقاء الأطفال في المدارس، بدلاً من استغلالهم كوسيلة للدخل. كما تدعو إلى تعزيز دور الجهات الحكومية والمجتمع المدني في توفير الدعم اللازم للأطفال وأسرهم لمنع استمرار هذه الظاهرة.
الاثارة و النتائج السلبية التي قد تظهر على الاطفال مستقبلا و على المجتمع
بحسب تقارير صادر عن منظمة العمل الدولية، فإن الأطفال الذين يُجبرون على التسول غالباً ما يعانون من آثار نفسية واجتماعية طويلة الأمد، منها فقدان الثقة بالنفس، التعرض للعنف والاستغلال، والانقطاع عن التعليم. هذه الظروف يمكن أن تؤدي إلى مشاكل أكبر في المستقبل، حيث يكون الأطفال عرضة للتورط في أنشطة غير قانونية واستغلالهم بطرق أكثر خطورة.
في ضوء هذه التحديات، تشدد الناشطة أليفة سمير على ضرورة التصدي لهذه الظاهرة في سنجار قبل أن تتفاقم و تقول الناشطة المدنية أليفة سمير، التي تعمل في مجال المجتمع المدني وتقدم خدمات في مستشفى سنوني العام، إن “تسول الأطفال لم يكن ظاهرة مألوفة في مجتمعنا الإيزيدي قبل النزوح. كنا نفتخر دائماً بأنه لا يوجد أحد في شوارعنا يمارس التسول. لم يكن لدينا هذا الاستغلال للأطفال، وهذا كان جانباً إيجابياً كبيراً في مجتمعنا. يمكن القول إن من بين جميع المجمعات في شمال العراق، قد تجد بالكاد طفلاً أو اثنين يتسولان. وحتى في قضاء سنجار، لم نكن نرى الأطفال يستغلون بهذا الشكل. للأسف، بدأت هذه الظاهرة بالظهور في مجتمعنا بعد النزوح، ويجب أن نسيطر عليها قبل أن تتفاقم وتصبح كما في الموصل أو دهوك، حيث يتم استغلال الأطفال بشكل متزايد للتسول.”
وتضيف أليفة: “استغلال الأطفال في التسول هو تدمير لطفولتهم. هؤلاء الأطفال، بدلاً من أن يكونوا في المدرسة أو يلعبون مثل أقرانهم، يُجبرون على الوقوف في الشوارع والتوسل من أجل البقاء. نحن بحاجة إلى مساءلة الأهل الذين يدفعون بأطفالهم إلى الشوارع وعلينا التعاون مع منظمات تُعنى بالطفولة ومع أجهزة الأمن الوطني لضمان حماية هؤلاء الأطفال.”
تشير أليفة أيضًا إلى مخاطر أكبر على المدى الطويل: “إذا لم نتمكن من وقف هذه الظاهرة الآن، قد يبدأ الأشخاص الذين يمارسون القمار باستغلال أطفالهم لجمع المال. بل وأكثر من ذلك، هناك خطر أن يقوم بعض ضعاف النفوس باستغلال هؤلاء الأطفال جنسياً في المستقبل. و تقول” إن مستقبل هؤلاء الأطفال والمجتمع ككل في خطر إذا لم نتخذ إجراءات صارمة وفورية.”
أليفة سمير تؤكد على أهمية التدخل المبكر للحد من هذه الظاهرة وتقول: “يجب أن نتخذ خطوات حاسمة للحفاظ على سلامة الأطفال ومنع استغلالهم. علينا أن نعمل معًا كمجتمع ومع الجهات المعنية لنضمن أن شوارعنا تظل خالية من التسول، وأن يعود الأطفال إلى أماكنهم الطبيعية في المدارس والملاعب، بعيداً عن هذا الواقع المؤلم.”
التأثير النفسي والاجتماعي لتسول الأطفال
تظهر الدراسات أن الأطفال الذين يعيشون في حالة من التسول قد يعانون من انعدام الثقة بالنفس، والقلق، والاكتئاب بسبب ظروفهم الصعبة و تعتبر ظاهرة تسول الأطفال ظاهرة اجتماعية معقدة تؤثر بشكل كبير على نمو الأطفال، سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي.و تشير ايضا قد يتعرض الأطفال المتسولون لخطر الاستغلال والعنف، مما يؤثر على تطورهم النفسي والاجتماعي. بحسب الاختصاصات النفسية.
عزيزة جانكير ، اختصاصية في علم النفس الاجتماعي، تؤكد على الآثار السلبية العميقة التي يتعرض لها الأطفال المتسولون حيث تقول” ان هذه الظاهرة سلبية بشكل كبير و خصوصا على الطفل لانه في مرحلة يحتاج هو بالذات الى عناية و اهتمام لان يمرون في مرحلة النمو العقلي و الجسدي في هذه المرحلة العمرية.
و تضيف جانكير, العائلة في هذه المرحلة يجب ان تكون داعمة للطفل من اجل اكمال دراسته و هذا ما يفترض ان يحدث, و لكن للاسف يحدث العكس هنا في مجتمعاتنا و يعود ذلك للظروف المعيشية التي يمر بها هذه العوائل. و تكمل” ان عدم وجود اسناد عائلي او اظهارهم للطفل رضاهم فيما يفعله هذه الامور تقود الطفل الى السلوك الاتكالي بان يصبح يعتمد على الاخرين في حياته و هذا ما يقود معظمهم للتسول.
و تشير عزيزة الى ” أن التسول يؤدي إلى نقص حاد في مستوى الثقة بالنفس لدى الأطفال، حيث يتعرضون للتنمر والاستهزاء من قبل الأقران والمجتمع بأسره، مما ينعكس سلبًا على صحتهم النفسية ويحد من فرص تطويرهم الشخصي والاجتماعي في المستقبل.
و تقول ايضا ” يعاني الأطفال المتسولون من مشاكل صحية نفسية جسيمة، بما في ذلك القلق والاكتئاب، نتيجة للظروف القاسية التي يعيشونها والتهميش الاجتماعي الذي يتعرضون له. تزيد هذه المشاكل من تعقيد حالاتهم النفسية وتصعّب فرص تحسين وضعهم الاجتماعي “- و كذلك- ” يعاني الأطفال المتسولون من نقص في الفرص التعليمية، بسبب الظروف القاسية التي يعيشونها.
وتضيف ايضا أن التشوه الاجتماعي الذي يواجهه الأطفال المتسولون يمكن أن يؤثر على سمعتهم ويعيق فرصهم في التعليم والتوظيف مستقبلا، مما يخلق دائرة مغلقة من الفقر والتهميش. و تناشد جانكير بضرورة تقديم دعم نفسي واجتماعي فوري لهؤلاء الأطفال لتحسين حالتهم النفسية والاجتماعية ومنع تفاقم الأضرار التي يتعرضون له. و توضح ” أن الأطفال المتسولون يحتاجون بشكل ملح إلى برامج تأهيلية ودعم نفسي يساعدهم على تجاوز الآثار النفسية السلبية التي يعانون منها نتيجة التنمر والاستهزاء، والتي تؤثر بشكل كبير على حياتهم اليومية ومستقبلهم.
حقوق الطفل في العراق
في حديثه حول ظاهرة تسوّل الأطفال في سنجار، أوضح المحامي سامي خديدة الجوانب القانونية التي تجرّم هذه الظاهرة وفقًا للتشريعات العراقية. استند إلى قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، مشيرًا إلى أن المادة 390** تعاقب كل شخص بالغ يتجاوز سن الثامنة عشرة وله مورد مشروع، إذا ما وجد متسولًا في الطرقات العامة أو الأماكن العامة دون مبرر قانوني. وأوضح أن العقوبة تتراوح بين الحبس لمدة شهر إلى ثلاثة أشهر، ويمكن أن تصل إلى سنة في حال تم استخدام وسائل الخداع، مثل التظاهر بإصابة أو إلحاح مفرط في التسوّل.
وفيما يتعلق بالأطفال، شدد خديدة على أن القانون يعاملهم بشكل مختلف. إذا كان المتسول لم يتجاوز سن الثامنة عشرة، فإن أحكام مسؤولية الأحداث هي التي تُطبّق، بما يراعي حالتهم كقُصّر، وفقًا للنصوص القانونية الخاصة.
أما جريمة إغراء الأطفال بالتسول، فقد تناولتها المادة 392، التي تنص على معاقبة كل من يدفع شخصًا لم يتجاوز الثامنة عشرة إلى التسوّل، بالسجن لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر أو غرامة مالية تصل إلى خمسين دينارًا. وتشتد العقوبة لتصل إلى ستة أشهر وغرامة مالية أكبر إذا كان الجاني من الأشخاص المسؤولين عن رعاية الطفل، كولي أو وصي، مما يجعل استغلالهم لهذه السلطة جريمة أشد خطورة.
أوضح خديدة أن المشرع العراقي تشدد في هذه الحالات نظرًا للعلاقة الوثيقة بين الوصي أو الولي والطفل، حيث يسهل عليهم التأثير عليه وإجباره على التسوّل. ولكن رغم ذلك، أشار المحامي إلى ثغرة قانونية مهمة في المادة، حيث اقتصرت على تجريم الإغراء فقط، دون الإشارة إلى أشكال أخرى من الاستغلال مثل إجبار الطفل أو الانتفاع مما يجنيه من التسوّل. كما أشار إلى أنه في حالات معينة، يُستغل الطفل بسبب إعاقته الجسدية أو الذهنية كأداة لجذب تعاطف المارة، وهو سلوك بالغ الخطورة يتطلب تشديدًا أكبر في التشريعات الحالية.
ختم سامي خديدة حديثه بالتحذير من أن هذه الأفعال لا تؤدي فقط إلى ضياع حقوق الأطفال، بل تسهم في تكريس دائرة الفقر والاستغلال، داعيًا إلى تعديل القوانين لسد الثغرات وتوفير حماية أكبر للأطفال الذين يقعون ضحية لهذه الجرائم.
دور المجتمع والأثر الإيجابي المحتمل اجتماعيا و اقتصاديا
على دنكة بناء مهجور بالقرب من محطة تعبئة الوقود في سنوني، تجلس طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها، محتمية من شمس لا ترحم. اسمها ليس مهمًا لمن يمر بجانبها؛ قصتها هي التي تتحدث بصوتٍ أعلى. وجهها شاحب، ومظهرها يعكس آثار تعب طويل ومستمر. شعرها متشابك وملابسها متسخة، تبدو وكأنها تحمل على كتفيها أعباء العالم.
توفيت والدتها منذ زمن، ووالدها العاجز لا يستطيع تأمين قوت يومهما. تلك الطفلة الصغيرة تبيع المياه المقطرة في فلينة بيضاء، تحملها بيديها الصغيرتين، وتمدها للمارة بصمت مطبوع عليه عزة نفس ممزوجة بالحاجة.
تتحرك بخطوات بطيئة ومترددة بين المارة، في بعض الأحيان تمد الماء، وفي أحيان أخرى تطلب المال. نظراتها تطارد عيون المارة، تبحث عن بصيص تعاطف أو يد تمتد لتقديم بضعة دنانير.
هذا المشهد اصبح يتكرر في الكثير من زوايا المدينة، أطفال تحولوا إلى متسولين بسبب الظروف القاسية التي عصفت بأسرهم. هذه التاثيرات الاجتماعية بحجج واخية تحت غطاء الاقتصاد الرديئ ليست ذرائع قانونية لتسول الاطفال و عمالتهم و ياخذ بنا هذا الموقف للحديث عن التاثيرات الاجتماعية و الاقتصادية و دور المجتمع الايجابي المحتمل في تخفيف الظاهرة على الاقل.
يتحدث الناشط المدني و المدرب في مجال ادارة الاعمال السيد فيصل عبدي عن هذا المحور قائلا:
” تعد ظاهرة التسول من اخطر الظواهر المؤذية التي تصيب المجتمعات البشرية نتيجةً للركود الاقتصادي في المناطق المتقدمة والنامية على حدٍ سواء ، ألا ان معدلات نمو انتشارها ترتفع بشكل اكبر في المناطق النامية وذلك لظروفها الاقتصادية القاهرة وصعوبة ايجاد فرص العمل او انعدام تكافؤ الفرص ، فيوماً بعد اخر تنتشر هذه الظاهرة بشكل مخيف في قضاء سنجار التي حصلت فيها انهيارٌ شديد في البنى التحتية والخدمات العامة ، وشمل هذا الانهيار القطاع التجاري الخاص وفقدت الناس مشاريعهم واعمالهم التجارية جراء اجتياح داعش للمنطقة.
و يضيف عبدي, فبعد مرور عشر سنوات متتالية على المواطن السنجاري وهو يعيش بمستوى دخل شهر متردي نتيجة فقدانه كل مصادر الدخل بسبب الازمة الامنية التي حلت بسنجار عام 2014 ، ولا شك ان قلة فرص العمل في سوق العمل التجاري او الحكومي والفقر المدقع والبطالة في الوقت الحالي كلها اسباب واقعية مما دفعت و تدفع ببعض الفئات اللجوء الى خيار التسول كمصدر دخل ، و قد تتحول هذه الظاهرة فيما بعد الى مهنة يمتهنوها بعض الناس ، وهذا هو المؤشر الاخطر الذي ينتجه التسول في الشوارع !
و يكمل, هذه الاسباب وغيرها ادت الى اتساع رقعة التسول اجتماعياً الا ان اصبحت متشابكة ومعقدة في الاركان بعد تزايد اعدادها باستمرار واللجوء الى ممارسة طرق و وسائل متنوعة الاشكال الاكثر احترافية .
و يختم عبدي حديثه مشيرا الى الحلول” من سبل معالجة هذه الظاهرة المخيفة اجتماعياً هي مكافحة البطالة والفقر من خلال ايجاد فرص عمل لائقة للشباب سواء كانت حكومية او مدنية ( القطاع الخاص ) التي قد تأتي على شكل مبادرات انسانية عن طريق رجال الاعمال والاغنياء بتقديم معونات انسانية وتوفير احتياجاتهم الاساسية الضرورية ، او تاخذ المؤسسات و المنظمات المجتمع المدني دورها الحقيقي لاحتواء حالات الفقر والمتسولين ، وتأهيلهم نفسياً ودعمهم من خلال انشاء مشاريع صغيرة لهم ، وفتح دورات تدريبية وتأهيلهم مهنياً ليتمكنوا من الاعتماد على انفسهم وإعالة اسرهم.
و يؤكد عبدي على ” ان الدعم الحكومي للمعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة وشمولهم براتب شهري ضمن شبكة الرعاية الاجتماعية لابعادهم عن التسول ، لان الفقر الشديد وتدني مستوى الدخل من الاسباب الرئيسة التي تدفع الناس بكافة اعمارهم الى ممارسة ظاهرة التسول ، لذلك فلابد من تمويل الاسر المحتاجة وزجهم الى دورات تدريبية مهنية في القطاع الخاص ودعمهم بمشاريع تنموية وتجارية ليحصلوا من خلالها على الاستقرار المادي للحد من ظاهرة التسول ، كما ينبغي تعزيز القيّم الاجتماعية وحث الاثرياء لدعم الفقراء وقيام المقتدرين منهم بتكفل الاسر الفقيرة ، او انشاء مراكز تأهيل خاصة بهم ، لزجهم فيما بعد الى سوق العمل الحر”