شبح (التغيير الديموغرافي) يطارد الأقليات في سهل نينوى ..“إنهم يستهدفون وجودنا”
يكشف هذا التحقيق، التغييرات التي طرأت في سهل نينوى خلال العقدين الأخيرين، والمخاوف المتزايدة للأقليات هناك، وفقدان ثقتها بالحكومتين المحلية في نينوى والمركزية في بغداد، في ظل دعوات لتدخل دولي لوقف ما يصفه باحثون بـ"نزيف الأقليات
ايزيدي 24 بالتزامن مع شبكة نيريج
جرجيس توما
منذ أن رجع عماد زهير(أسم مستعار- 47 سنة) إلى قره قوش، مركز قضاء الحمدانية في سهل نينوى، بعد تحريرها من داعش أواخر 2016، وهو لايتوقف عن التفكير بالرحيل عن البلاد بمجرد حصوله على فرصة مواتية له ولأسرته الصغيرة التي قوامها زوجة وطفلتان (9 و 11 سنة).
كان مثل آلاف غيره من المسيحيين، قد اضطروا في السابع من آب/أغسطس 2014 إلى النزوح إلى أربيل إثر سيطرة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية الذي عرف اختصاراً بـ(داعش) على المنطقة وفرضهم خيارين أمام السكان إما دفع الجزية والخضوع للدولة الإسلامية أو الرحيل بالثياب التي عليهم.
ترك وراءه وظيفته في حقل لتربية الدواجن ومنزله بكل ما احتواه من آثاث، بل ومدخراته وحلي زوجته التي لم يجد أياً منها حين عاد مطلع 2017 أي بعد أسابيع من تحرير بلدته الواقعة شرق مدينة الموصل(405كم شمال بغداد)، حتى أن منزله كان شبه مدمر.
يقول بصوت حاد، أن بلدته لن تستعيد حياتها السابقة أبداً، وانه لا يشعر بالأمان فما حدث في آب/أغسطس 2014 “لايفارق ذهنه”، مشيرا الى عدم ثقته بالأجهزة الأمنية ولا بأي جهة تقدم نفسها حامية للمسيحيين:”لقد هرب الجميع وتركونا بين أيدي داعش”.
ويضيف شيئاً آخر إلى قائمة طويلة من الأمور التي تثير قلقه:”كانت تتواجد هنا قوات البيشمركة ثم حلت محلها قوات الحشد الشعبي وهي اليوم تأمر وتنهي في منطقتنا، فلها الكلمة العليا وتتحكم بكل شيء حتى بت أشعر بأنني غريب في أرض أجدادي”.
ليس ذلك فحسب، بل قلة فرص العمل في المنطقة وتردي الخدمات بكل أشكالها والافتقار الى البنى التحتية، وغياب التمثيل المسيحي في الحكومة المحلية في نينوى والصراعات السياسية، كل ذلك يدفعه للهجرة.
“الكنيسة تخشى برحيلنا أن ينتهي الوجود المسيحي التأريخي بسهل نينوى”، يقول ذلك مغلظاً صوته، كأنه يقلد شخصاً آخر، ثم يتساءل:”وماذا عن وجودي أنا كإنسان لاتتوفر له أبسط الحقوق والخدمات؟”.
يصمت برهة ثم يتابع محتجاً:”أعمل بسيارة أجرة منذ سنوات لكي أجمع ما يكفي من المال لأرحل مع عائلتي من هنا دون عودة، في الأقل، سأؤمن في أي مكان آخر مستقبل إبنتي، وسنعيش بعيداً عن الحروب والجماعات المسلحة التي تقتل باسم الدين أو المذهب”.
عماد، ضمن 40% فقط من المسيحيين الذين عادوا إلى سهل نينوى، بعد نزوحهم إلى إقليم كردستان ومناطق أخرى في العراق، في حين أن 60% مازالوا نازحين او هاجروا إلى خارج العراق، وفقاً لمصادر مطلعة أبرزها لويس روفائيل ساكو بطريرك الكلدان في العراق.
وحتى الـ40% العائدة، غير قسم منهم بعد العودة بفترة، وجهاتهم مجددا نحو النزوح أو الهجرة مما أسهم بإحداث تغيير ديموغرافي في سهل نينوى الذي يشهد اتساعاً لوجود الشبك وتمددهم في جميع أنحاء السهل مقابل إندراس او تراجع وجود باقي الأقليات (مسيحيين وإيزيديين وكاكئية وتركمان وكرد وعرب).
يكشف هذا التحقيق، التغييرات التي طرأت في سهل نينوى خلال العقدين الأخيرين، ومخاوف الأقليات هناك وفقدان ثقتها بالحكومتين المحلية في نينوى والمركزية في بغداد، مع دعوات لتدخل دولي لوقف ما يصفه المهتمون بهذا الملف بـ”نزيف الأقليات من سهل نينوى”.
سهل نينوى .. تقلبات سكانية
يمتد سهل نينوى من شمال إلى أقصى شرق مدينة الموصل، ويتألف من ثلاثة أقضية هي الحمدانية والشيخان وتلكيف، وأبرز البلدات فيه (قره قوش أو كما تعرف بـبغديدا، وبرطلة وألقوش وتلكيف وبعشيقة وعين سفني وطهراوة وكرمليس وتللسقف وشرفية).
معظم البلدات هذه مسيحية، لذا فهو يعد موطناً تأريخياً لهم، وكذلك للشبك الذين يتوزعون في أكثر من 60 قرية أهمها (بازوايا وعلي رش وكوكجلي)، ويعيش فيه كذلك الإيزيديون في(ناحية بعشيقة وقرية بحزاني وقضاء الشيخان) وهناك في السهل كذلك توجد قرى متفرقة للكاكئية أبرزها (تل اللبن وزنكَل) فضلاً عن العرب وكذلك التركمان الذين يعيشون جنباً إلى جنب مع باقي الأقليات في بعض القرى والبلدات مثل بعشيقة والشيخان وتلكيف.
سهل نينوى
يقول الكاتب والباحث زينل غانم، أن منطقة سهل نينوى تمتاز بأراضيها الخصبة لوقوعها ضمن ما يعرف بالخط المطري، أي أن الأمطار فيها مضمونة، لذلك فأن الغالبية العظمى من سكانه اما مزارعون أو مربو دواجن.
وكثير من أبناء المنطقة انتقلوا وعلى مدى عقود، خاصة في النصف الثاني من القرن الماضي، للعيش في مدينة الموصل، للدراسة في مدارسها وجامعتها أو العمل فيها، وتركزوا بنحو خاص في أحياء الجانب الأيسر مثل:”القدس، عدن، الكرامة، السماح، الأربجية، النور، نينوى الشرقية، الدركزلية، النبي يونس وأحياء في الجانب الأيمن كالدواسة”.
لكن ذلك الواقع تغير مع نشاط التنظيمات المسلحة عقب سقوط النظام العراقي السابق في نيسان/أبريل2003، نتيجة الاستهداف الممنهج “للشبك والتركمان الشيعة، والإيزيديين والمسيحيين والكرد”.
ولهذا، فأن الآلاف من أبناء هذه الأقليات، والكلام لزينل، نزحوا من الموصل منذ منتصف 2003 ولغاية حزيران/يونيو 2014 ليستقروا في سهل نينوى، وحدثت ما تشبه ثورة البناء السكنية في قرى الشبك وبلدات المسيحيين ومناطق الايزيدية في سنجار: “النازحون بنوا لهم مساكن أو أضيفت الى المساكن القديمة طوابق جديدة ونشأت في السهل تجمعات سكنية وأسواق جديدة”.
ياقو بهنام (57 سنة) كانت لديه ورشة خراطة ميكانيكية في منطقة (صناعة وادي عقاب) في الجانب الأيمن لمدينة الموصل، لم يتعامل في بداية الأمر بجدية مع التهديدات التي كانت تصله بالقتل واعتقد أنها مجرد محاولات لدفعه إلى ترك ورشته من قبل منافسين.
يقول مستعيداً تلك الذكريات:”كان هذا في أواخر سنة 2004، دخل ورشتي شخص هددني بالقتل إن لم أترك الورشة وأغادر الموصل”، لكن بعد أسابيع من ذلك، بدأت الجثث تظهر في شوارع الموصل، وأخذت تنتشر أخبار قتل الجماعات المسلحة لمدنيين بينهم مسيحيون، وخطفهم.
“قتلوا شابين مسيحيين كانا يعملان في فندق نينوى أوبروي، وخطفوا آخر من منطقة الدواسة، فعلمت أن استهدافهم لي بات مسألة وقت فقط، لذلك أخذت أفراد عائلتي معي وانتقلنا إلى برطلة”.
لم يعرض ياقو منزله الكائن في حي العربي في الجانب الأيسر للموصل للبيع، ظناً منه أن رحيله عن المدينة مؤقت فسيعود متى حل السلام فيها، إلا أن سطوة الجماعات المسلحة كالقاعدة وبعدها داعش تفاقمت ليقرر المكوث بشكل نهائي في برطلة (22 كم شرق الموصل).
ويضيف:”كتبوا بالطلاء الأسود على جدار منزلي في الموصل، لايباع لايؤجر، المنزل معد للتفجير، على الرغم من ان قوات الجيش العراقي كانت منتشرة في المدينة. وبعد سيطرة داعش عليها في 2014، كتبوا على جدار منزلي باللون الأحمر حرف -ن- أي نصراني، وعبارة، لايباع ولايؤجر، المنزل ملك للدولة الإسلامية !”.
لكن في صيف 2014 توجب على ياقو ترك المنزل الجديد الذي أسسه في برطلة، والنزوح مع عائلته مجدداً ولكن هذه المرة إلى محافظة أربيل في اقليم كردستان، وذلك بعد هجوم التنظيم وسيطرته على سهل نينوى ليلة السادس على السابع من آب/أغسطس من تلك السنة.
وقبلها بأيام، كان التنظيم قد شن هجومه الدموي على قضاء سنجار، ليضطر المسيحيون والايزيديون والشبك والتركمان الشيعة في سهل نينوى للنزوح، بما فيهم مئات العائلات التي كانت قد نزحت من الموصل سابقا.
وبعد تحرير سهل نينوى في 2016، كان الشبك الشيعة وحدهم العائدين بنحو كامل إلى السهل بخلاف بقية الأقليات كالمسيحيين والإيزيديين الذين فضل غالبيتهم عدم العودة.
عادوا مسنودين بدعم من الحشد الشعبي الشيعي الذي فرض سلطته أجزاء واسعة من المناطق التي تم تحريرها من سيطرة داعش في أربع محافظات في المنطقة الغربية للعراق (الأنبار، نينوى، صلاح الدين، ديالى).
إذ كان المئات من الشبك الشيعة، قد انتضموا في تشكيل ضمن الحشد عرف باللواء 30 ضم في بداية تأسيسه سنة 2014 ما يزيد عن 1500 مقاتل شبكي شيعي، بقيادة النائب الشبكي حنين قدو (توفي في ألمانيا يوم الأحد 13 كانون الأول/ديسمبر 2020 أثر مرض عضال).
وحل بدلاً عنه شقيقه وعد القدو (يحمل الجنسية الألمانية) والذي أدرجته وزارة الخزانة الأمريكية في 19 تموز/يوليو 2019 ضمن اللائحة السوداء وفرضت عليه مع ثلاث شخصيات عراقية أخرى عقوبات بعد اتهامه بالتورط في ملفات تتعلق بانتهاكات لحقوق الانسان، من بينها قمع الأقليات في سهل نينوى.
لكن قبل ذلك، وتحديداً في تشرين الثاني/نوفمبر 2017 تولى الحشد الشعبي زمام الأمور في مناطق سهل نينوى، بدلا من قوات البيشمركة الكردية التي انسحبت نحو أقليم كردستان، في إشارة إلى ما يمكن اعتباره انتهاء ما عرفت بالمناطق المتنازع عليها بموجب المادة 140 من الدستور العراقي.
خارطة توزيع الأقليات
لمعرفة أسباب الصراع على منطقة سهل نينوى، ومخاوف الأقليات على مستقبل وجودها هناك، يقول الباحث والكاتب عادل كمال، أن أصل الصراع بدأ عند إعلان الدستور العراقي في 2005.
ففي ذلك الوقت كانت قوات البيشمركة، قد أحكمت سيطرتها المطلقة على منطقة سهل نينوى، بإعتبار أنها مناطق متنازع عليها بين الإقليم والحكومة المركزية وفقاً لنص المادة 140 من الدستور، التي وضعت في الأساس لحل مشكلة محافظة كركوك وما تعرف بالمناطق المتنازع عليها وهي فضلاً عن سهل نينوى، تشمل قضاء سنجار ومناطق في ديالى وصلاح الدين.
ونصت تلك المادة على آلية بثلاثِ مراحل أولها التطبيع، بمعالجة التغييرات التي طرأت على التركيبة السكانية في كركوك والمناطق المتنازع عليها خلال فترة حكم النظم العراقي السابق 1968-2003 “الذي انتهج سياسة تعريب مناطق كردية”، والثانية بإجراء الإحصاء السكاني في تلك المناطق، والثالثة، بالاستفتاء لتحديد ما يريده سكانها.
وشُكلت لجان عدة لتطبيق أحكام هذه المادة التي أثارت جدلاً مطولاً وكان آخرها في آب/أغسطس 2011، برئاسة وزير النقل في حكومة المالكي، هادي العامري، الذي واجه اعتراضات ورفضاً لتوليه رئاسة هذه اللجنة. البعض من السياسيين يؤكدون بان هذه المادة لم تعد موجودة لأن تنفيذها كان مقررا في آواخر 2007، أي قبل 17 سنة من الآن.
برغم كل شيء، بقيت السلطة الكردية قائمة في منطقة سهل نينوى، حتى حزيران/يونيو 2014، عندما انسحبت وبنحو مفاجئ، فضلاًعن كل تشكيلات الجيش العراقي والشرطة المحلية من مدينة الموصل تاركةً ترسانة عسكرية ضخمة وما يقرب من أربعة ملايين نسمة في نينوى تحت سيطرة عناصر تنظيم داعش بمن فيهم سكان السهل.
وعادت قوات البيشمركة إلى السهل بعد تحريره من سيطرة التنظيم أواخر 2016، لكنها لم تمكث سوى سنة واحدة فقط، لتحل محلها قوات الحشد الشعبي الشبكية الشيعية ممثلة باللواء 30، وكتائب بابليون المسيحية التي تضم مقاتلين من الشيعة، يقودها ريان الكلداني، وهو واحد من بين الأربعة الذين كانت وزارة الخزانة الامريكية قد فرضت عليهم العقوبات سنة 2019.
وبالعودة إلى الكاتب عادل كمال، فأنه يبين خارطة توزيع الأقليات في سهل نينوى بالنحو التالي:
- يتواجد الكلدان في قضاء تلكيف، وأهم القصبات التابعة له(ألقوش) التي تعد “مركزا لكنيسة المشرق الآشورية ومن ثم الكنيسة الكلدانية لاحقاً”.
- السريان الكاثوليك والأرثوذكس يتواجدون في قضاء الحمدانية، في بلدات قره قوش وبرطلة وعلى سفوح جبل الألفاف حيث يقع دير مار متي، وفي ناحية بعشيقة.
- أبناء كنيسة المشرق الآشورية يتواجدون في قرى قضائي تلكيف والشيخان.
- الإيزيديون يتواجدون في قضاء الشيخان (47 كم شمال الموصل) في بلدات (عين سفني وقصروك وباعذرة) فضلاً عن ناحية بعشيقة.
- ويتوزع الشبك الشيعة والسنة في 60 قرية واقعة في ست وحدات إدارية بين أقضية تلكيف والموصل والحمدانية وناحيتي بعشيقة وبرطلة، أهمها (بازوايا، علي ره ش، كوكجلي، طوبزاوة، الفاضلية، شرخان).
- يتواجد العرب والكرد والتركمان وبنحو متفرق في الاقضية والنواحي والقرى التابعة لسهل نينوى.
تراجع مستمر لحجم وجودهم
لويس مرقوس أيوب، ناشطٌ وعضو مؤسس لتحالف الاقليات العراقية، يقول بأن أعداد المسيحيين في سهل نينوى، فضلاً عن مدينة الموصل، كانت تبلغ قبل سيطرة تنظيم داعش عليها نحو 200 ألف نسمة:”أما الآن فهم أقل من نصف هذا الرقم بكثير، لأن ثلثا المسيحيين تقريباً صار بين مهاجر خارج البلاد أو نازح في مناطق أخرى”.
ويرى أيوب، بأن هجرة ونزوح المسيحيين لم تأتِ وليدة حدث معين مثل سيطرة داعش على نينوى في صيف 2014، وإنما قبل ذلك بعشر سنوات “عندما استهدفهم عناصر تنظيم القاعدة بدءا من العام 2004، بقتلهم على على الهوية”، وان ذلك تصاعد بظهور تنظيم الدولة الإسلامية الذي عرف فيما بعد بداعش في 2006 واستهدافه المسيحيين بالخطف والقتل.
أيوب، يضيف أسباباً أخرى تقف وراء عدم رغبة المسيحيين في العودة من الهجرة او النزوح، وهي:”عدم وجود قوانين تحمي المسيحي وتعطي له الحق كمواطن من الدرجة الاولى مثل البقية” في ظل غياب بنية الدولة، ويضيف موضحاً:”يوجد تمييز ضد المسيحيين في منح الوظائف، ولا تعطى إليهم الدرجات الوظيفية الخاصة في مركز المحافظة، مثل المناصب الإدارية في مقر المحافظة”.
ويعدد أسبابا أخرى كعدم تعويض سوى 10% إلى 15% فقط ممن سلب تنظيم داعش أموالهم أو دمر أملاكهم، الى جانب الصراعات القائمة في مناطق الأقليات بسهل نينوى، بين حكومة المركز وأقليم كردستان “ذلك يجعل من فرص العمل في هذه المناطق ضعيفة جداً، ولهذا فكثير من العائدين بعد النزوح، يفكرون بنزوح ثانٍ إلى أقليم كرستان او غيرها من الأماكن”.
شذى مثنى، موظفة على ملاك وزارة الصحة من قره قوش(بغديدا)، تجد أن خيار الهجرة إلى خارج البلاد هو الأقرب إليها وعائلتها لأسباب كثيرة، تقول”تركنا الموصل في سنة 2006 وانتقلنا إلى بغديدا، ثم نزحنا مرة أخرى إلى عين كاوا في أربيل في سنة 2014، ورجعنا في 2017 وها نحن نستعد الآن للهجرة بشكل نهائي”.
وتضيف:”كان الارهابيون هم السبب في كل مرة، ثم أصبح المجهول هو أكثر شيء يهددنا ونخافه”، وتبين وجهة نظرها:”منذ رجوعنا إلى البلدة ولغاية الآن ونحن نشعر بالقلق، لم نعد نثق بمستقبلنا هنا.. بعد العودة الأخيرة تمسكنا بأرضنا وقررنا البقاء إلى أن إحترق إحباؤنا في قاعة العرس”.
تشير شذى بذلك إلى حريق اندلع في قاعة للإعراس(أبن الهيثم) في 26 أيلول/سبتمبر2023، وأدى إلى وفاة 113 شخصاً، كانوا من بين ألف مسيحي حاضرين في حفلة عرس. الجهات الأمنية أكدت وقوع الحادث نتيجة خطأ ومع افتقار القاعة لمتطلبات السلامة، لكن شكوك راودت بعض المسيحيين بأن الحريق كان مفتعلاً.
شذى وكثيرون غيرها يميلون لرواية استهدافهم، وتؤكد بأنها وأفراد أسرتها لم يعودوا راغبين في البقاء:”فنحن لانعرف في أي وقت سنحترق أو نواجه بالرصاص أو يتم خطفنا في ظل ضعف الدولة”.
مخاوف الأقليات الأخرى
الكاتب والباحث الاجتماعي سلوان خلف، يشير إلى عدم وجود إحصائية بشأن أعداد الإيزيديين في سهل نينوى، على الرغم من أن تقديرات غير رسمية تظهر أنهم كانوا يشكلون قبل 2014 نحو 85% من سكان ناحية بعشيقة(20 شرق الموصل)بما فيها قرية بحزاني وقرى أخرى محيطة، فضلاً عن تمركزهم بكثافة في قضاء الشيخان الذي يضم أبرز المراقد الدينية الايزيدية.
ويقول بأن الإيزيديين في بعشيقة انتقلوا بنحو سريع إلى إقليم كردستان المحاذي إثر هجوم شنه تنظيم داعش في السابع من آب/أغسطس 2024 “إذ أن الأخبار التي أكدت ارتكاب التنظيم لجرائم مروعة بحق الايزيديين في قضاء سنجار يوم 3 آب 2014، كانت قد أثارت الرعب في كامل سهل نينوى، وخشي ايزيديو بعشيقة من نفس المصير فنزحوا على الفور”.
ويستدرك:”الإيزيديون في قضاء الشيخان الذين تناقصت أعدادهم أصلاً خلال العقود الأخيرة، كانوا بعيدين بعض الشيء عن مناطق سيطرة داعش وبمأمن في ذلك الوقت، ومع ذلك فضل الكثير منهم النزوح والهجرة لاحقا حتى بات القضاء يضم اقلية ايزيدية لا تزيد عن 30%”.
خدر الياس، هو واحد من بين نحو 120 الف ايزيدي هاجروا خلال السنوات العشرة الأخيرة، جزء منهم من سكان سهل نينوى. هو غادر مع عائلته مدينة الموصل في 2004 بعد ان خسر عمله في مجال بيع المشروبات الروحية وبات تحت تهديد القتل، فانتقل الى احدى قرى الشيخان، قبل ان يهاجر كليا تحت ضغط الرعب الذي أحدثه تنظيم داعش. يقول :”لن يكون هناك استقرار في سهل نينوى، ونعتقد ان لا فرصة لدينا للنجاة بغير الهجرة”.
مخاوف المسيحيين والايزيديين تطارد الشبك أيضا وإن كانت بنحو أقل كونهم حافظوا على وجودهم السكاني القوي، وكانوا الأكثر استقراراً مقارنة بباقي المكونات.
يذكر الباحث الاجتماعي سلوان، أن أعدادهم في سهل نينوى تقدر بحسب مصادر غير رسمية بما بين 400 الى 450 الف نسمة، نحو 70% منهم شيعة و 30% سنة. وان الشيعة “كانوا هدفاً مستمراً للجماعات التكفيرية، ولاسيما بعد نشوب الحرف الطائفية في العراق بيم 2006 و2007 ، إذ استهدف داعش الشبك الشيعة في الموصل بالقتل والخطف، وقراهم في سهل نينوى بالشاحنات المفخخة”.
ويرى بأن الشبك السنة كانوا أقل استهدافاً، لأنهم كانوا مسنودين بقوات البيشمركة، ويوضح:”الغالبية العظمى من الشبك السنة وبخلاف الشيعة، يميلون إلى أنهم ينحدرون من أصول كردية، كعشيرة – الشكاك- ولهذا انتمى الكثيرون منهم إلى التحالف الديموقراطي الكردستاني او ضمن تشكيلات البيشمركة نفسها التي كانت تسيطر على سهل نينوى قبل 2014، وبعد سيطرة الشبك الشيعة على السهل، لم يعد للشبك السنة من سلطة أو نفوذ يذكران”.
كما يشير سلوان إلى أن هنالك أمرين يميزان الشبك بنحو عام، الأول، أنهم وبخلاف باقي الاٌقليات:”ليس لديهم أي وجود في خارج العراق ولا حتى في باقي مناطق البلاد باستثناء سهل نينوى”، والثاني أن الشبك “ليست لديهم بلدة خاصة بهم، مثل المسيحيين (قره قوش وبرطلة)، والايزيدية (سنجار)، والتركمان (تلعفر)، فهم يتمركزون فقط في قرى بسهل نينوى”.
وبما أن التطرف تجاه الأقليات في سهل نينوى، برز على خلفية دينية “فكرية عقائدية” ومارسته الجماعات الدينية المسلحة كالقاعدة وانصار الإسلام وداعش وغيرها، وهذا انتهى في الوقت الراهن بعد هزيمة داعش في 2017.
إلا أن الأقليات مازالت تواجه تحديات أخرى، يفرض بعضها الصراع بين إقليم كردستان (الكرد) والحشد الشعبي (الشيعة) وهو قائم في الوقت الراهن للسيطرة على سهل نينوى، فضلاً عن الصراع الإداري بين مكونات سهل نينوى نفسها، وبينها وبين الادارة المحلية بمدينة الموصل مركز محافظة نينوى.
حلول لتبديد المخاوف ووقف الهجرة
لمنع أقليات سهل نينوى من مغادرته وإقناع النازحين عنه والمهاجرين بالعودة، ثمة إشتراطات يضعها مهتمون ومعنيون بالسهل، من بينهم لويس روفائيل ساكو بطريرك الكلدان، الذي يؤكد على المواطنة كحل.
إذ قال في تصريح صحافي:” ينبغي أن لانتحدث عن الأكثرية والأقلية، عن المسيحيين والشيعة والسنة والإيزيديين، بل عن مواطنين فحسب”، ويرى أن من المفروض أن يكون جميع العراقيين متمتعين بنفس الحقوق والواجبات.
ولتحقيق ذلك يعتقد أن العراق:”يحتاج إلى دولة عصرية، ديمقراطية، مدنية ترتكز إلى مفهوم المواطنة”.
أما الناشط المسيحي لويس مرقوس أيوب، فيحدد جملة من الشروط الواجب تنفيذها من أجل وقف هجرة الأقليات من سهل نينوى، وهي أن تقوم الحكومة المركزية في بغداد، بتخصيص صندوق إعمار خاص بمناطقهم لتعويضهم عما فقدوه من ممتلكات إثر غزو داعش في 2014، ومنح كوتا الأقليات حق النقض (الفيتو) على ما يقره مجلس النواب من قوانين وقرارات تمس حقوقهم الدينية والثقافية واللغوية والفكرية .
وأن يتولى أبناء الأقليات من المنتسبين في صفوف الجيش والشرطة العراقيين الملف الأمني في مناطقهم وليس قوات الحشد الشعبي أو قوات تتبع أي جهة سياسية، وفقاً لتعبيره.
ويضيف عليها، منحهم شكلاً إدارياً يتيح لهم أن يكونوا مسؤولين عن إدارة مناطقهم:”بعيداً عن تأثيرات الأحزاب السياسية الحاكمة، ويكون هذا الشكل الإداري مرتبطاً بالحكومة الإتحادية وبتوصية وحماية أممية”. مع فتح قنوات للاستثمار في مناطقهم لأبنائهم ولمن هاجر منهم تحديداُ: ” لكي لا يكون هناك استغلال وتغيير ديموغرافي جديد في تلك المناطق”.
كما يطالب أيوب، بتحقيق العدالة الانتقالية عن ما أصابهم خلال عهد(النظام العراقي السابق) وبعد سقوطه في 2003 من خلال إعادة أملاك المسيحيين وسواهم من الأراضي المطفأة لأغراض سكنية التي لم تستخدم لحد اليوم لتلك الأغراض، وتعويضهم تعويضاً عادلاً في التي تم إطفاؤها وتوزيعها لمكونات عراقية أخرى.
وتفعيل قانون تعويض النقص في الملاكات الوظيفية للمسيحيين ليكون من أبنائهم حصراً “كما نص القانون لكي تكون هناك فرص عمل لهم في وطنهم”.
وتشريع قانون المكونات وفق المادة الدستورية (125) والتي تنص على “يضمن هذا الدستور الحقوق الادارية والسياسية والثقافية والتعليمية للقوميات المختلفة كالتركمان، والكلدان والآشوريين، وسائر المكونات الاخرى، وينظم ذلك بقانون”.
في حين يشدد المتخصص بالعلوم السياسية، خيري فائق، أن على الحكومة العراقية الامتناع عن دعم أقلية دون غيرها، ويوضح:”الشبك الشيعة يسيطرون اليوم على المناصب والوظائف المهمة في سهل نينوى وحتى على بعض المواقع في مدينة الموصل مركز المحافظة، بسبب دعمهم من قبل الحكومة المركزية التي يقودها الشيعة وأيضاً بإسناد من الحشد الشعبي في حين لانجد أثراً يذكر للكاكئية وليس لديهم حتى ممثل عنهم في أي جهة رسمية لأنهم غير معترف بهم أصلا”.
لهذا، فهو يرى بان التمايز يؤدي إلى عدم الاستقرار في سهل نينوى، ويطالب بسحب قوات الحشد الشعبي وايكال مهمة حماية المنطقة للجيش والشرطة المحلية، ومن ثم التركيز على بناء ودعم المؤسسات الحكومية لتقديم الخدمات لجميع السكان دون إستثناء.
شامل خيري(48سنة) تاجر مركبات، كان يعيش في مركز قضاء الشيخان قبل هجوم داعش على مناطق الايزيديين في قضاء سنجار، ترك هو وأفراد أسرته المنطقة، واستقر هو وقسم منهم في محافظة دهوك والقسم الآخر في مدينة أربيل أو غادروا البلاد.
يقول بأنه وبعد عشرة سنوات من ذلك، بوسعه العودة إلى مدينته التي ولد وعاش وعمل وتزوج فيها، لكن:”بالنسبة لأطفالنا الذين كبروا في دهوك وأربيل وألمانيا، هذا أمر مستبعد تماماً فلقد اندمجوا في المناطق التي يعيشون فيها، تعلموا في مدارسها وجامعاتها وأصبحت فيها مصادر أرزاقهم وأصدقائهم وذكرياتهم”.
هو حزين كما يؤكد على ما يصفه بالتغيير الديموغرافي الذي حدث في الشيخان وفي عموم سهل نينوى، لكنه يميل إلى جانب أسرته أكثر:”أفكر بالدرجة الأساس بمستقبل ابنائي وبما يجعلهم آمنين بعيداً عن أي مصدر تهديد”، ثم يستدرك:”هذا كا ما يهمني الآن !”.
• انجز التحقيق بإشراف شبكة نييرج للتحقيقات الإستقصائية، بدعم من CFI .