الإيزيدية بعد داعش: بين السرديات الجماعية والحياد الليبرالي

سرمد سليم
تشكل تجربة الإيزيديين بعد الإبادة التي ارتكبها تنظيم داعش في شنكال اختبارا صارخا للفلسفة السياسية المعاصرة، خصوصا فيما يتعلق بالتوتر بين أخلاقيات السرد الجماعي والمبادئ المحايدة الليبرالية. إذ لم تعد إبادة 2014 وحملات السبي والتشريد مجرد مأساة بشرية، بل كشفت الدور الوجودي للسرد الجمعي: فقصص الإيزيديين عن الفرمانات التاريخية، وملاذ جبل شنكال، ونساء السبي اللواتي عدن حاملات لجراح في الروح والجسد، ليست مجرد إرث ثقافي، بل تشكل نسيجا أخلاقيا ووجوديا يثبت هوية المجتمع ويمنحه معنى للبقاء. وكما يشدد مايكل ساندل وألاسدير ماكنتاير، فإن الإنسان ليس ذاتا عقلانية معزولة كما يفترض النموذج الكانطي، بل هو كائن غارق في روايات ممتدة عبر الأجيال تمنحه الانتماء والدلالة والتوجيه الأخلاقي. غير أن قوة السرد الجماعي تحمل مفارقة داخلية: فهي تمنح الشرعية الأخلاقية والدفء النفسي، لكنها قد تؤدي إلى الانغلاق—إقصاء الآخرين واحتكار العدالة داخل حدود الجماعة فقط. وتكشف هذه المفارقة عن أهمية نموذج الحياد الليبرالي الذي يدافع عنه جون راولز، حيث تقوم العدالة على مبادئ عامة تحمي الحقوق الفردية بغض النظر عن الانتماءات الثقافية أو الجماعية.
من هذا المنظور، ليست مأساة الإيزيديين مجرد انتهاك لسردية جماعة معينة، بل انتهاك لمبادئ كونية للكرامة الإنسانية. ومع ذلك، يعاني هذا النموذج المحايد من البرودة الأخلاقية؛ فهو يوفر حماية قانونية لكنه لا يعترف بخصوصية الجرح الجماعي ولا بالوزن المعنوي للذاكرة الجمعية. من زاوية وجودية، يسلط هايدغر الضوء على بعد آخر: فقد تعرض الإيزيديون لمواجهة جماعية مع العدم، حيث يصبح الجبل ملاذا ليس للحماية الجسدية فقط، بل كرمز للانكشاف الذي يحفظ وجودهم أمام طغيان الموت. أما حنة أرندت فتقدم قراءة دقيقة للشر؛ فالإبادة الإيزيدية لم تكن نتيجة فعل شيطاني استثنائي فحسب، بل مثال على “الشر التافه” الذي تمارسه نظم بيروقراطية تطبع القتل وتجرد الضحايا من إنسانيتهم. ومن هنا يظهر البعد السياسي للعدالة: فهي لا تكتفي بمحاكمة الجناة، بل تتطلب استعادة الإيزيديين كفاعلين سياسيين قادرين على رواية قصصهم والمطالبة بمكانهم في الفضاء العام. بالتالي، يحتاج مفهوم العدالة بعد داعش إلى إطار مزدوج: من جهة، العدالة السردية تعترف بخصوصية الجرح وتحافظ على ذاكرة المجتمع، ومن جهة أخرى، العدالة المحايدة تضمن حماية الحقوق الفردية وتمنع تكرار الانتهاكات، مما يخلق توازناً بين الاعتراف الجماعي وحماية الكرامة الإنسانية. في هذا التوازن، يصبح جبل شنكال رمزا للعدالة المركبة: تجمع بين الوجود في السرد الجماعي والوجود تحت القانون، بين دفء الاعتراف وصرامة المبدأ.
ما بعد داعش إذن هو امتحان فلسفي مزدوج: فمن جهة، هناك الحاجة إلى اعتراف سردي يحفظ للذاكرة فرادتها ويقيها التلاشي؛ ومن جهة أخرى، هناك ضرورة لبناء نظام قانوني محايد يضمن أن لا تتكرر الإبادة بحق أي جماعة. السرد وحده يدفئ لكنه قد يعزل، والقانون وحده يحمي لكنه قد يجرد من المعنى.
العدالة التي يستحقها الإيزيديون هي تلك التي تجمع بين “الوجود في القصة” و”الوجود تحت القانون”، بين دفء الاعتراف وصلابة المبدأ.
ومن دون هذا التركيب، يبقى الخطر قائما بأن يظلوا عالقين بين ذاكرة بلا حماية أو حماية بلا ذاكرة، وهو بالضبط التحدي الذي يُظهر أن مسألة الإيزيديين بعد داعش ليست شأنا محليا أو دينيا ضيقا، بل سؤالا فلسفيا عن العدالة في زمن ما بعد الإبادة