اراء

من رواندا الى سنجار، اللقاء بين قضايا التضامن والاعتراف والعدالة

 

 

سعد سلوم

 

بعد الإبادة الجماعية التي تعرّض لها الإيزيديون على يد تنظيم داعش في عام 2014، برزت أسئلة جوهرية حول كيفية ترميم النسيج الاجتماعي العراقي من خلال اعتراف الدولة والمجتمع بمعاناة الضحايا، وتعزيز أشكال التضامن الفاعل معهم، وصولًا إلى عدالة حقيقية تعالج الجذور البنيوية للتمييز والإقصاء.

لذا، يشكّل المجتمع الإيزيدي أحد أبرز الأمثلة المعاصرة على التقاء قضايا العدالة الانتقالية والاعتراف بالهويات الدينية والثقافية والتضامن الإنساني العابر للهويات. إذ لم تكن مأساة الإيزيديين  حادثة استثنائية، بل تكشف البنية العميقة للتمييز التاريخي ضد الأقليات في العراق، حيث تظلّ المواطنة معلّقة بين النصوص الدستورية والواقع الاجتماعي. وهذا ما يجعل البحث في العلاقة بين التضامن والاعتراف والعدالة ضرورة معرفية وأخلاقية في آنٍ واحد.

الاعتراف كشرط للعدالة للمجتمع الإيزيدي

يُعدّ الاعتراف، وفقًا للفيلسوف الألماني أكسل هونيث، عنصرًا تأسيسيًا في تحقيق العدالة الاجتماعية، إذ “لا يمكن لأي إنسان أن يحقق ذاته أو كرامته دون أن يُعترف به بوصفه كائنًا ذا قيمة داخل الجماعة”. فغياب الاعتراف بمعاناة جماعة ما يعني استمرار الإقصاء الرمزي والثقافي، وهو ما واجهه الإيزيديون تاريخيًا نتيجة تهميشهم في التعليم والسياسة والتمثيل العام.

رغم أن الدستور العراقي لعام 2005 نصّ على احترام “التنوع الديني والمذهبي والقومي”، ظلّ الاعتراف الفعلي بالدين الإيزيدي محدودًا، لا سيّما في مؤسسات الدولة والمناهج الدراسية. فضلا عن غياب الإعتراف على المستوى الديني حيث عومل الدين الإيزيدي ضمن مستوى أدنى أو في ظل عدم إعتراف به كدين سماوي أو مساو للأديان الأخرى. يضاف الى ما يحدثه ضباب الإعتراف الاجتماعي من قصور في الوعي الجمعي، ما بين سيادة الصور النمطية عن الإيزيدي كدين أو التعاطف مع أفراده كضحايا فحسب، ما يؤشر إلى ضعف الاعتراف المؤسسي بهويتهم الدينية وغياب التعريف بثقافتهم المتميزة.

إصدار قانون الناجيات الإيزيديات رقم (8) لسنة 2021 يُعد خطوة نوعية في مسار الاعتراف الرسمي بالإبادة الجماعية، إذ نصّ على تعويض النساء الناجيات وإعادة دمجهن اجتماعيًا. لكن هذا القانون بقي محدود الأثر بسبب ضعف التمويل وصعوبة التطبيق في مناطق النزاع. وكما تقول نانسي فريزر فإن “الاعتراف من دون إعادة توزيع عادلة للموارد يظلّ شكلًا فارغًا من العدالة”

 

التضامن كجسر للإعتراف والمواطنة

 

ليس التضامن، في السياق الإيزيدي مجرّد تعاطف عاطفي أو إنساني، بل هو ممارسة سياسية وأخلاقية تهدف إلى تفكيك بنى الإقصاء. فقد برزت بعد عام 2014 مبادرات تضامن محلية ودولية متعددة من أبرزها منظمة يزدا (Yazda) التي أسّسها ناشطون إيزيديون وشركاؤهم لتوثيق الجرائم والمطالبة بالمحاسبة الدولية. و تحالف القرار 1325، والمعروف أيضاً بتحالف “المرأة والسلام والأمن”،  الذي ركز على عدة جوانب رئيسية لدعم تمكين النساء في سياق النزاعات وإعادة الإعمار، بما في ذلك “العدالة للنساء” من خلال تعزيز حقوق المرأة ومنع العنف ضدها وضمان المساءلة عن الانتهاكات، بالإضافة إلى تعزيز مشاركة المرأة في عمليات صنع القرار وفي بناء السلام.  وعدة مشاريع لحملات إعادة إعمار سنجار بجهود محلية ودولية.

في هذا الإطار، يصبح التضامن فضاءً للعدالة الاعترافية، أي تحويل الاعتراف إلى أفعال ملموسة تضمن كرامة الضحايا. وكما يعبّر الفيلسوف الفرنسي بول ريكور:  لا يتحقق العدل إلا حين يُترجم الاعتراف بالآخر إلى فعلٍ يداوي جراح الذاكرة.

إن التضامن مع الإيزيديين لا يقتصر على المساعدات الإنسانية، بل يمتد إلى تبنّي قضيتهم في الخطاب الوطني. ففي عام 2023، أعلنت  الحكومة العراقية إدراج يوم 3 آب “يومًا وطنيًا لضحايا الإبادة الإيزيدية”، في خطوة رمزية تعزّز ثقافة الاعتراف والذاكرة المشتركة.

كما أن التضامن الدولي، من خلال قرارات الأمم المتحدة (مثل قرار مجلس الأمن رقم 2379 لعام 2017)، ساهم في توثيق الجرائم ومحاسبة مرتكبيها، مما يعزز فكرة التضامن بوصفه آلية عدالة عابرة للحدود. وقد قارنت تقارير  هيومن رايتس ووتش بين الحالة الإيزيدية ونماذج العدالة في رواندا والبوسنة، لتؤكد أن التضامن العالمي ضروري لتحويل الذاكرة إلى إصلاح حقيقي.

 

العدالة بوصفها إعادة بناء للكرامة

 

العدالة في الحالة الإيزيدية لا تقتصر على الملاحقة الجنائية لمرتكبي الجرائم، بل تشمل العدالة الرمزية والاجتماعية. فالمطالبة بمحاكمة عناصر داعش خطوة أولى، لكنها لا تكفي ما لم تترافق مع إصلاح مؤسساتي وثقافي طويل المدى.

على المستوى القانوني،  ففي فرنكفورت عام 2021 أدين عراقي عضو في تنظيم الدولة الإسلامية بارتكاب جريمة إبادة بحق الأقلية الدينية الإيزيدية في العراق في محاكمة تاريخية في ألمانيا. وقضت محكمة في فرانكفورت بالسجن مدى الحياة على طه الجميلي لارتكابه جرائم من بينها قتل طفلة إيزيدية في العراق. واتهم الجميلي باستعباد الطفلة البالغة من العمر خمسة أعوام في 2015، حيث كبلها بالسلاسل وتركها تموت من العطش. ويعتبر الجميلي أول عضو في تنظيم الدولة الإسلامية تتم إدانته بارتكاب جريمة إبادة بحق الإيزيديين.

على المستوى الاجتماعي، يبقى التحدي في إعادة دمج النازحين، إذ ما تزال أكثر من 60% من الأسر الإيزيدية تعيش في مخيمات دهوك ونينوى، حسب تقرير الأمم المتحدة (UNHCR 2024). العدالة هنا تلتقي مع التضامن في هدف مشترك: استعادة الكرامة الإنسانية للضحايا، وبناء ذاكرة وطنية جامعة تحمي من تكرار الجريمة. وكما كتبت في سياق أخر لن يكون العراق ديمقراطيًا ما لم تتحقق العدالة الاعترافية مع الإيزيديين والمندائيين والشبك وغيرهم من ضحايا الإقصاء الطويل”.

 

 من الاعتراف إلى المصالحة

 

ليست العلاقة بين الاعتراف والعدالة والتضامن خطية بل تكاملية، فالإعتراف يمهّد لتسمية المظلومية والهوية. والعدالة تترجم الاعتراف إلى حقوق وضمانات وإجراءات مؤسسية. والتضامن هو الفضاء الأخلاقي الذي يجعل العدالة ممكنة ويمنع نسيان الضحايا.

بعبارة أخرى : إن العلاقة بين الاعتراف والعدالة والتضامن لا تسير في خطٍّ مستقيم أو مراحل زمنية متتابعة، بل هي علاقة تكاملية وتفاعلية، حيث يُعزّز كلّ مبدأ منها الآخر بصورة متبادلة. فـ الاعتراف بمعاناة جماعةٍ ما يولّد لدى المجتمع شعورًا بالمسؤولية الأخلاقية، ما يؤدي إلى تضامن فعلي معها. هذا التضامن بدوره يخلق ضغطًا اجتماعيًا وسياسيًا يتيح تحقيق عدالة مؤسسية تُترجم الاعتراف إلى إصلاحات قانونية وتعويضات رمزية ومادية.

وفي المقابل، تحقّق العدالة يعمّق الاعتراف بالضحايا ويُعيد ثقة الجماعات المهمَّشة بالدولة والمجتمع، مما يُرسّخ ثقافة تضامن مستدامة.

فعلى سبيل المثال، أدّى الاعتراف الرسمي بجرائم داعش كإبادة جماعية إلى تضامن وطني ودولي واسع مع الإيزيديين، ثم تُرجم هذا التضامن إلى خطوات عدلية مثل قانون الناجيات الإيزيديات (2021) ومحاكمات بعض المتورطين في أوروبا. وبالمثل، في تجربة رواندا، ساهم الاعتراف بجرائم الإبادة في إنشاء محاكم “غاتشاكا” المحلية التي هدفت إلى تحقيق العدالة والمصالحة المجتمعية، مما عزّز التضامن بين الضحايا والجناة السابقين في إطار السلم الأهلي.

وهكذا، فإن هذه المفاهيم الثلاثة — الاعتراف، العدالة، والتضامن — تعمل معًا في دائرة واحدة، هدفها النهائي هو استعادة الكرامة الإنسانية وبناء سلام اجتماعي دائم.

إن بناء عراق متصالح مع ذاته يمرّ عبر عدالة اعترافية تضامنية تشمل جميع المكوّنات، من الإيزيديين إلى الكاكائيين والمسيحيين. فكلّ إقصاء جديد يُبقي الجرح مفتوحًا ويهدد بعودة العنف. وكما قال نيلسون مانديلا في سياق مشابه: “العدالة لا تكون انتقامًا من الماضي، بل تصالحًا مع المستقبل.”

 

من رواندا الى سنجار 

 

يمكن فهم قضية الإيزيديين بعمق أكبر عند وضعها في سياق مقارن مع تجارب شعوب أخرى واجهت الإبادة أو الإقصاء. ففي في رواندا  واجهت الدولة بعد الإبادة تحديًا مشابهًا في تحقيق العدالة والمصالحة. تم تأسيس محاكم “غاتشاكا” الشعبية التي ركزت على العدالة التصالحية، أي “الاعتراف والصفح بدلًا من الانتقام. وهذا النموذج يقدّم درسًا للعراق في أهمية إشراك المجتمعات المحلية في العدالة لا حصرها بالمؤسسات القضائية.

وفي تجربة  البوسنة والهرسك، سعت محكمة لاهاي الخاصة إلى ملاحقة مجرمي الحرب، لكن غياب الاعتراف الاجتماعي المتبادل بين المكوّنات جعل المصالحة بطيئة. وهي تجربة تؤكد، كما تكتب مارثا نوسباوم  أن “العدالة القانونية لا تكفي ما لم ترافقها تربية على التعاطف المدني. يمكن الإشارة أيضا الى تجربة كندا، فقد قدّمت تجربة “لجنة الحقيقة والمصالحة للسكان الأصليين” نموذجًا مهمًا للعدالة الاعترافية، من خلال دمج الذاكرة والاعتذار الرسمي في بناء هوية وطنية جديدة. يمكن للعراق أن يستلهم هذا النموذج عبر إنشاء “مركز وطني للذاكرة” يوثق جرائم الإبادة الجماعية ويعيد كتابة التاريخ المدرسي ليشمل جميع المكوّنات.

وعلى العموم فإنه في منطقتنا العربية، تبرز تجارب  في لبنان وتونس والمغرب كنماذج لتعدد ديني وثقافي تحميه دساتير حديثة، لكنها لا تزال تواجه تحدي الاعتراف الكامل بالمكوّنات المهمشة، ما يجعل المقارنة مع العراق فرصة لتطوير نموذج عربي للعدالة الانتقالية يقوم على المصالحة والاعتراف.

إن هذه المقارنات تُظهر أن التضامن لا يقتصر على الموقف الإنساني، بل هو بنية مؤسسية ومعرفية تعيد تشكيل الذاكرة والهوية. وكما يقول جون بول ليدراك : يولد السلام المستدام حين يتحول الألم المشترك إلى سردية جامعة.

في الختام، نؤكد على إن معالجة قضية المجتمع الإيزيدي تتطلب رؤية تتجاوز البعد الأمني أو الإغاثي، نحو عدالة اعترافية تضامنية تستند إلى قيم المواطنة المتساوية. فالتضامن مع الإيزيديين ليس مجرّد واجب أخلاقي، بل هو شرط لإعادة بناء العراق على أسس العدالة والتعدد والكرامة الإنسانية. إن أي مشروع وطني لبناء السلام الدائم يجب أن يبدأ من الاعتراف بالضحايا، وتضمين قصصهم في الذاكرة العامة والتعليم، وتحويل التضامن من شعار إلى ممارسة مؤسسية مستدامة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى