حريق الخيمة رقم صفر

سرمد سليم
كان “خدر” قد قرر أخيراً أن ينتحر، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة ليس خوفاً من الجحيم، بل لأنه اكتشف أن الحبل الذي اشتراه من دكان “أبو تحسين” في المخيم كان مغشوشاً، مصنوعاً من خيوط بلاستيكية صينية لا تحتمل وزن كاهن بابلي سابق يحمل في رأسه أطنانا من الهراء الميثولوجي.
بصق خدر على الحبل وقال بمرارة: “حتى الموت في هذا المخيم بضاعة رديئة ومنتهية الصلاحية.” جلس خدر في زاويته المعتادة، يحدق في نملة كانت تحاول جر قطعة من “صمونة” يابسة. فجأة، شعر برغبة عارمة في استعادة “خاله” (شامته) التي طارت مع الانفجار. بدأ يحفر في أرض الخيمة بملعقة صدئة، باحثاً عن بقايا وجهه القديم الذي تركه تحت أنقاض منزله في شنكال.
صاح جاره “قاسم”، الذي فقد ذاكرته لدرجة أنه صار يعتقد أن منظمة الهجرة الدولية هي “جبرائيل” ببدلة زرقاء: “ماذا تفعل يا خدر؟ هل تبحث عن كنز النمرود تحت فراشك الإسفنجي؟” رد خدر دون أن يرفع رأسه: “أبحث عن هويتي يا قاسم.
الشرطة أخذوا بصماتي، وداعش أخذوا قريتي، والآن اكتشفت أن الله أخذ (الشامة) التي كانت تميزني عن الحمير.
أنا الآن مجرد نسخة مشوهة، (برغي) سقط من حذاء التاريخ.” ضحك قاسم ضحكة تشبه صوت اصطدام حجر بوعاء فارغ: “يا رجل، نحن محظوظون! لقد صرنا شفافين. بالأمس مر ملك الموت من أمام خيمتي، نظر إليّ ولم يجدني. كنت نحيفاً لدرجة أن عزرائيل اعتقد أنني مجرد خيال لعمود كهرباء محترق!” في تلك الليلة، حدث “التماس الكهربائي” العظيم. لم تكن مجرد أسلاك، بل كانت رغبة السماء في شواء ما تبقى من كرامة “خدر”. بدلاً من أن يهرب، وقف خدر وسط النيران وفتح زجاجة العرق المهرب. كانت النار تلتهم القماش الأبيض، وخدر يرى في اللهب رقصة “عشتار” وهي تتعرى أمام جنود يحملون كلاشينكوفات بائسة. صاح خدر في وجه النار: — “احرقي! احرقي يا بابل! نحن لسنا بشراً، نحن مجرد (وقود إضافي) في محرك الكون الذي يعمل بالدم والعرق الرخيص.
التاريخ ليس حماراً يا قاسم، التاريخ هو (خنزير) يأكل أبناءه ثم يتجشأ قصائد وطنية!” عندما وصلت سيارة الإطفاء، وجدوا خدر جالساً فوق الرماد، وجهه مسود تماماً، لكنه كان يبتسم بلاهة. لقد رسم بالرماد “خالاً” كبيراً على جبهته، وصار يصرخ في وجه الضابط الذي جاء ليسجل المحضر: “سجل عندك يا حضرة الملازم.. الاسم: بابل. المهنة: خطأ مطبعي. السكن: الخيمة رقم صفر في مخيم شاريا .” نظر الضابط إليه بقرف وقال لزميله: “اكتب.. حالة نفسية، تماس كهربائي، وتأثير كحول مغشوش.” ضحك خدر حتى سعل دماً. كان يعرف الحقيقة التي لا يجرؤ أحد على قولها: إن العالم كله ليس سوى خيمة كبيرة، والله يمسك بـ “قداحة” عملاقة، وينتظر منا فقط أن نصدق أننا “ناجون”. بصق خدر على حذاء الضابط اللامع، ورسم بالرماد دائرة حول نفسه، ثم نام في قلب السجن الذي بناه بيديه، وهو يهمس لنملته التائهة: “ارقصي يا عزيزتي.. ففي هذا السيرك، الموتى هم الوحيدون الذين يملكون حق الضحك



